الآلهة الأنثى
لاهوت الأنوثة والأمومة بين الميثولوجيا القديمة والعقائد المسيحية
تأليف عزالدين بن راضشو
مراجعة وتقديم: د. تيماء تيم
مقدمة المؤلف:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحابته أجمعين . أما بعد :
الألوهية بحكم ما تتطلبه من قوة وحكمة وشدة وسلطان ، فكثيرا ما رسم الإنسان القديم الإله الاكبر في صورة رجل عجوز ذو لحية كبيرة ، مفتول العضلات ، هذا مانجده في صورة الإله زيوس عند اليونان وأخوه الإله بوسيدون ، وجوبيتر عند الرومان ، و مردوخ عند البابليين ، وبعل عند القرطاجيين والفينيقيين . في الحقيقة ليست هذه الصورة الوحيدة للألوهية التي رسمها الانسان القديم ، وإنما رسم صورا متعددة ، كالوحوش العملاقة ، و الآلهة المسوخ التي نصفها حيوان ونصفها إنسان ، والآلهة الإناث . نعم كان للإله الأنثى دور كبير في العقائد القديمة ، فكانت تجسد مختلف مظاهر الحياة والطبيعة والوجود ، وتلبي حاجيات البشر ، بل كثيرًا ما نجد تلك الإلهة الأنثى تحتل مرتبة عليا كما هو حال “ايزيس” في مصر و “انانا” في سومر ، بل أحيانا نجد الاهتمام الأكبر موجها للالهة الانثى كما هو الحال مع الالهة عشتار في بابل ، التي مع كونها إحدى آلهة الانوناكي ، ومع كون العديد من الآلهة أقوى وأعلى منها ، إلا أننا نجد ذلك الإنسان البابلي الساذج يوجه اهتمامه الروحي الاكبر للآلهة عشتار، ويعطيها قيمة أكبر من كل الآلهة الاخرى. حتى اننا نجدها الشخصية الأكثر ورودا في الميثولوجيا الرافيدينية ، بل نجد أن هذه الشخصية من أكثر الشخصيات الميثولوجية تطورا ، وربما هي الوحيدة التي يمكننا ان نلمس وجودها في الفكر الشعبي المعاصر وحتى الفكر الأدبي.
البعض يرى في تلك العقائد والقصص الميثولوجية مجرد تصور ساذج لإنسان قديم محدود الفكر والمعرفة ، ولكن إن تمعنا في عصرنا هذا ، وهو ما يدين به كثير من علماء المجتمع العلمي ، سنجد أن صورة تلك العقائد نفسها مازالت موجودة ، فالمستوى الفكري والعلمي لا يستطيع أن يلغي تلك الحاجة الروحية للعقل ، بل نجده أحيانا أكثر تمسكًا بهذه العقائد من ذلك الانسان القديم محدود الفكر .
في الحقيقة إن الذي دفعني للخوض في هذه الدراسة والتنقيب في أعماق الفكر اللاهوتي خاصة بما يتعلق بالآلهة الأنثى ، هو الدعوى العريضة التي يتمسك بها رجال الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذوكسية حول عدم عبادتها لمريم العذراء ، مع اننا ما نجده من خلال الليتوريجيا والصلوات الكنيسية والأيقونات هو عكس ذلك تماما . ولقد رأيت بعض الأبحاث والدراسات النقدية الموجهة لهذه الدعوى لا تتعدى السطحية وفي بعض الأحيان الافتقار للمنهج العلمي والتاريخي ، فكل ما تم تقديمه في هذا الباب هو نقد للصلوات والليتوريجيا و ومظاهر عبادتها وتقديسها ، أو رصد لعملية تحولها من مجرد امرأة يهودية عادية في فلسطين الى تلك الربة المقدسة في مسيحية القرن الرابع والخامس . هذا وان كل تلك الدراسات تناولت شخصية مريم العذراء من خلال الظاهر الذي يعرفه كل مسيحي وغير مسيحي ، و بمعزل عن أهم القضايا اللاهوتية، حيث تم تناول هذه الدراسات ، بعيدًا عن الثالوث و ألوهية المسيح ، وكذلك بعيدًا كل البعد عن الواقع التاريخي و العمق الفكري اللاهوتي . صحيح توجد بعض المقاربات النقدية حول علاقة تقديس مريم العذراء وبعض الشخصيات الوثنية القديمة ، لكن هذه الدراسات ينقصها الكثير من العمق المعرفي بالميثولوجيا القديمة ، والكثير من التحليل الفلسفي والعلمي حولها .
أما مانبحث فيه نحن هو جملة من الأسئلة التي هي تأصيلٌ لحل مشكلة ألوهية العذراء مريم :
- هل تم تأليه مريم العذراء حقيقة ، أم أنه محض اتهام للكنيسة لوصمها بالوثنية ؟
- هل عبادة العذراء -أو تقديسها- هو ضرورة إيمانية ، أو إيمان دعت له الحاجة الروحية ؟
- ماعلاقة تأليه العذراء مريم بالآلهة الانثى ؟
- وما ضرورة الالهة الانثى في الفكر الميثولوجي والايمان المسيحي ؟
سنحاول في هذه الدراسة الإجابة عن هذه الاشكاليات .