إنها لسعادة بالغة أن نقدم من خلال هذا الكتاب ثمرةً جديدة من ثمرات أعمالنا التي تستهدف خدمة القرآن الكريم بتسخير إمكانات البحث والتعليم والتواصل التي بلغتها الإنسانية في عصرنا الحاضر على ضوء الأهمية التي أولاها القرآن الكريم للعلم والمعرفة. وإن البحث في تاريخ انتشار القرآن الكريم على امتداد الأرض من زواياه المختلفة وبمنهج علمي، وتسجيل ذلك، ثم تقديمه للطالبين في كتاب مرجعي إنما يمثل جانباً من هذه الخدمات التي نسعى إليها. ولا شك أن دراسة المصاحف التاريخية القديمة تحتل مكانة متميزة بين هذه الأعمال. وهذا الموضوع الذي يشكل مجالاً واسعاً قائماً بذاته للبحث والتنقيب كان مما تناوله مركزنا عقب تأسيسه في عام ۱۹۸۰ م وذلك في إطار برنامجي عمل رئيسيين. وكان البرنامج الأول حول المصاحف القديمة التاريخية التي تحمل خصائص معينة من حيث الزمن والطريقة. وفي هذا الإطار فإننا نقوم بدراسة وتدقيق المصاحف المستنسخة من أقدم المصاحف والتعرف على ما تحمله من أهمية في مختلف الجوانب، ثم شرح خصائصها والتعريف بها، ووضع ذلك في كتب مرجعية، ونشر المصاحف نفسها في صور طبق الأصل، والعمل على تقديمها للكتل العريضة من القراء. أما برنامج العمل الثاني فهو يتعلق بترجمات معاني القرآن الكريم، وهي موضوع يحمل هو الآخر أهمية محورية في تاريخ انتشار القرآن الكريم. وفي هذا السياق يقوم المركز ضمن هذا المشروع بنشر فهارس للترجمات المخطوطة التي عملت بلغات مختلفة. وهذه الفهارس قد تم تنظيمها في مجلدات يختص كل واحد منها بلغة معينة فقد جعلنا مجلداً للغة التركية، وهي الأكبر حجماً، وآخر للغة الفارسية، وثالثاً للغة الأوردية؛ أما الترجمات المخطوطة الأخرى في لغات غير هذه اللغات الثلاث فقد جعلنا لها مجلداً رابعاً. وعن الترجمات المطبوعة منذ ظهور الطباعة بلغات العالم المختلفة فقد جعلنا لها فهرساً في مجلد كبير.
وهذا العمل الذي نقدمه اليوم للقراء إنما يأتي في إطار المشروع الذي نقوم به لدراسة أقدم المصاحف في تاريخ الإسلام والتعريف بها ونشرها. وكان المصحف الأول الذي أعَدْنَا نشره صورة طبق الأصل
من بين المصاحف التاريخية هو المصحف الذي يحمل تاريخ ١٢٦٥هـ / ١٨٤٩م ويُعرف باسم مصحف فاضل باشا شريفوفيتش والمحفوظ في مكتبة غازي خسرو بك في مدينة سراي بوسنه بالبوسنة والهرسك (۲۰۰۲م). أما العمل الثاني في هذا المجال فهو إعادة نشر المصحف المعروف باسم مصحف قازان، وهو الذي طبع في قازان بتتارستان عام ۱۸۰۳ م وعُرف بأنه أول مصحف جرت طباعته في العالم الإسلامي. وقد تحقق هذا العمل في عام ۲۰۰۵م تحت الإشراف التقني للمركز وبالتعاون مع بلدية قازان بمناسبة الذكرى الألفية لمدينة قازان ومع الفخر والاعتزاز أود الإشارة إلى أن هذه الأعمال التي يقوم بها المركز في مجال المصاحف التاريخية لا زالت في اطراد مستمر. فقد قمنا بعد ذلك بنشر عمل تحت عنوان المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان بن عفان ، نسخة متحف طوب قابي سراي) (۲۰۰۷م)، وهو يضم صورة طبق الأصل منه مع دراسة أكاديمية متخصصة، ثم قدم لخدمة القراء. وعقب ذلك صدر مصحف آخر تحت اسم المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان بن عفان الله، نسخة المشهد الحسيني بالقاهرة) (۲۰۰۹م). وقد قام بإعداد هذين المصحفين للنشر الباحث المتخصص صاحب التجربة الواسعة في هذا المجال الدكتور طيار التي قولاج الرئيس الأسبق لرئاسة الشئون الدينية في تركيا، وذلك بعد تزويدهما بدراساته المفصلة والمتأنية.
وكان الدكتور طيار قد قام قبل ذلك بعمل آخر في هذا المجال؛ إذ أعد دراسة مماثلة للمصحف المنسوب أيضاً لسيدنا عثمان بن عفان والمحفوظ في متحف الآثار التركية والإسلامية في استانبول، ثم نشر المصحف والدراسة من قبل مركز البحوث الإسلامية (إسام) (استانبول ۲۰۰۸م). أما الكتاب الذي بين أيديكم فهو يأتي بعد مصحف طوب قابي ومصحف القاهرة ليضم دراسة جديدة قام بها الدكتور طيار أيضاً وبنفس المنهج الذي جرى عليه مع المصاحف السابقة. وهذه الدراسة العميقة والبحث الفني المقارن قد أفرده الدكتور طيار هذه المرة للمصحف المنسوب لسيدنا علي بن أبي طالب الله والمحفوظ في الجامع الكبير بمدينة صنعاء عاصمة اليمن. وكان الباحث قد نظر عند دراسته لهذا المصحف في خصائص أقدم المصاحف المعروفة والمسماة بأسماء المدن المحفوظة فيها، واستطاع من خلال ذلك التعرض للخصائص الشكلية والإملائية في تلك المصاحف. وهي: مصحف طشقند ومصحف طوب قابي في استانبول، ثم مصحف متحف الآثار التركية والإسلامية في استانبول أيضاً ومصحف المشهد الحسيني بالقاهرة، ومصحف لندن في المكتبة البريطانية، ومصحف باريس في المكتبة الوطنية، ثم مصحف سانت بترسبورغ. كما جرت المقارنة بين تلك المصاحف ومصحف المدينة النبوية (مصحف الملك فهد الذي طبع بما يوافق رسم مصاحف عثمان الله في مطبعة القرآن الكريم بالمدينة المنورة وجرى اعتباره أول نماذج المصاحف المطبوعة والأكثر انتشاراً في هذا الخصوص. وقام الباحث كذلك بشرح آخر المعلومات في موضوع تاريخ انتشار القرآن الكريم وأمور الخط والإملاء، وعلامات النقط والشكل، والأحداث التاريخية المتصلة بذلك.
وكنت خلال الأيام التي بدأنا فيها تصوير مصحف صنعاء صورة طبق الأصل في إرسيكا قد وجدت فرصة للقاء فخامة الرئيس علي عبد الله صالح رئيس دولة اليمن بمناسبة الندوة الدولية التي عقدناها في صنعاء في شهر ديسمبر ۲۰۰۹م تحت عنوان «اليمن في العصر العثماني فعرضت على فخامته أعمال المركز، ومنها هذا المشروع، ورأيتُ من فخامته اهتماماً به، كما عبر عن تقديره وتشجيعه لمثل هذه الأعمال.
فهذا العمل – وهو كغيره من الكتب التي نُشرت قبل ذلك من هذه السلسلة – يمثل إسهاماً آخر في مجال الدراسات التي أجريت حول تاريخ انتشار القرآن الكريم في ربوع الأرض. فهو يُشكل مرحلة متقدمة من سلسلة الصور طبق الأصل والدراسات العلمية والفنية التي رافقتها، ومن ثم فهو الأوسع بالمقارنة مع ما سبقه من الأعمال المشابهة، إلا أنه تجنب التكرار في البحث لما ورد في
الكتب السابقة ما لم تكن هناك ضرورة لذلك.
وأود هنا الإشارة إلى ميزة أخرى في هذا الكتاب: وهي أننا استطعنا استكمال العمل ونشره مع صورة طبق الأصل من مصحف صنعاء خلال مدة زمنية كنا قد حددناها وأكدنا عليها من قبل وذلك أمر نسعد له كثيراً. فقد كان قد تم الإعلان أن فترة ۲۰۱۰-۲۰۱۱م سوف تكون عاماً تقام فيه احتفالات خاصة في العالم الإسلامي تخليداً لذكرى مرور ١٤٠٠ سنة على نزول القرآن الكريم، وباقتراح تم تقديمه من إرسيكا إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية السابع والثلاثين المنعقد في مايو ۲۰۱۰م، وتصديق دول منظمة المؤتمر الإسلامي عليه، فقد تقرر القيام خلال تلك الفترة المذكورة بالفعاليات المختلفة التي من شأنها تيسير فهم جيد للقرآن الكريم وأتباع السبل الأنجع لشرحه. وبدأ تنفيذ البرنامج بمؤتمر افتتاحي دولي بمناسبة مرور ١٤٠٠ عام على نزول القرآن الكريم قام إرسيكا بتنظيمه في ٥ سبتمبر ۲۰۱۱م الموافق ٢٦ رمضان ١٤٣١هـ ليلة القدر، وكان تحت رعاية رئيس وزراء تركيا دولة السيد رجب طيب أردوغان وبكلمة افتتاحية منه. وفي المؤتمر جاءت فعاليات الحفل التي نظمت بالتعاون مع هيئات عدة تحت إدارة رئاسة الشئون الدينية في تركيا، وشاركت فيها مؤسسات حكومية من دول العالم الإسلامي والعالم أجمع، ومؤسسات المجتمع المدني، والاتحادات الإسلامية، وغيرها؛ وجرى خلال ذلك مراجعة الأعمال التي أنجزت وكذلك الأعمال التي يجري إنجازها والأعمال الأخرى التي رأى الحاضرون ضرورة القيام بها. وفي هذا السياق أشار المركز إلى ضرورة القيام بمشروعات بحث تستهدف موضوعات يمكن القيام بها بغية فهم جيد وشرح أفضل للقرآن الكريم وأبدية أحكامه وكذلك الموضوعات التي يلزم بحثها داخل أطر واسعة ولانهائية، والقيام بتطوير أعمال التدريب وتوسيع انتشارها. وبالتوازي مع ذلك فإن لمركزنا إرسيكا أعمالاً نوّه بضرورة وضعها في مقدمة الأمور، وهي: دراسة الفعاليات والتطورات التي لعبت دوراً على مدى التاريخ في نشر القرآن الكريم، والعمل على إعداد فهارس للنسخ المخطوطة والمطبوعة الموجودة، والقيام بالبحوث المتعلقة بها، وكذلك القيام بالدراسات حول تاریخ ترجمات معاني القرآن الكريم وتفاسيره التي هي أيضاً من مجالات العمل الرئيسية في إرسيكا، وعمل فهارس لترجمات معاني القرآن الكريم المخطوطة بلغات العالم وفهارس للتفاسير غير العربية. وهذه الموضوعات التي جرى التعرض لها بأهمية مرة أخرى بمناسبة ذكرى مرور ١٤٠٠ سنة على نزول القرآن الكريم إنما هي موضوعات لها مكانها المتميز، وتأتي على شكل مشروعات طويلة المدى ضمن فعاليات إرسيكا نفسه، ويجري نشر نتائجها في شكل سلاسل من الكتب. وهذا الكتاب الذي بين أيديكم والذي نصدره خلال هذه الذكرى المباركة هو واحد من تلك الأعمال.
ويسعدني بهذه المناسبة أن أقدم شكري العميق إلى الدكتور طيار التي قولاج الذي أنجز هذه الدراسة حول مصحف صنعاء. وأقدم شكري بوجه خاص إلى فخامة الرئيس علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية اليمنية الذي دعم جهودنا وأبدى اهتماماً كبيراً بأعمالنا وأشكر الأستاذ علي محمد الأنسي مدير مكتب رئاسة الجمهورية على جهوده ومتابعته وأشكر الأخ علي أحمد أبو الرجال رئيس المركز الوطني للوثائق (اليمني) الذي ساعدنا وقدم لنا يد العون في الحصول على صورة من المصحف كما أشكر الأخ الدكتور فؤاد الشامي والعاملين في نفس الأرشيف لكل جهودهم وأشكر الأستاذ حمود الهتار وزير الأوقاف والإرشاد اليمني ولا يفوتني أن أشكر كل زملائي في (إرسيكا) ممن أسهموا في إصدار هذا العمل.
الأستاذ المشارك
الدكتور خالد أرن
مدير عام إرسيكا