يتشرف مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية ( إرسيكا ) بطباعة ونشر هذا المصحف الذي اشتهر على مر السنين بأنه مصحف سيدنا عثمان، وظل محفوظاً لأمد طويل في قصر طوب قابي مقر السلاطين والخلفاء من آل عثمان، ثم صار في حوزة خزائن القصر بعد أن أصبح متحفاً مفتوحاً لكل القاصدين من محبي الآثار والفنون الإسلامية من مختلف أنحاء العالم . وفي نفس الوقت فقد دأب إرسيكا منذ بواكير نشاطه في عام ۱۹۸۰ ، الذي صادف الاحتفالات الدولية بقدوم القرن الخامس عشر الهجري، أن يكون القرآن الكريم في بؤرة عنايته أثناء الاحتفال بهذه المناسبة. وقام بالعديد من الفعاليات والإصدارات العلمية التي تتصل بتراث الإسلام الحضاري، وجعل نصب أعينه الاعتناء بالقرآن الكريم مصدر حضارة الإسلام وينبوعها الذي لا ينضب . فعمل في عدة مجالات منها نشر المصاحف ذات الأهمية التاريخية أو الفنية (١) ، وكذلك إعداد دراسات عن ترجمات القرآن وانتشاره في لغات شعوب الأرض (٢) . وكان المصحف المنسوب إلى سيدنا عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ( هو أحد الأهداف الكبيرة لخطة النشر؛ وظل اهتمامنا به منذ أول يوم حتى وفقنا الله بعد جهد كبير إلى نشره، وخاصة بعد أن اتضحت لنا منهجية النشر وتوفرت لذلك الإمكانات .
وقد سبق للمركز أن نشر من خزائن متحف قصر طوب قابي عدة كتب تعتبر من أهم مصادر الفنون الإسلامية . حيث قام بنشر كتاب عن مفاتيح الكعبة وأقفالها تحت عنوان ( الكعبة المشرفة : دراسة أثرية لمجموعة أقفالها ومفاتيحها المحفوظة في متحف طوب قابي باستانبول ) ( إستانبول ١٤١٤هـ / ۱۹۹۳م) ، ثم أعقب ذلك بنشر كتاب أستار الكعبة المشرفة ( استانبول ۱۹۹٦م) ، كما نشر كتاب السيوف الإسلامية ) بالعربية والإنجليزية / استانبول ۲۰۰۰ – ۲۰۰۲ ) . واستعان في غضون ذلك بخبراء المتحف وأساتذة تاريخ الفنون الإسلامية من أجل إعداد هذه الدراسات . وقد بدأ مشروع نشر المصحف المنسوب لسيدنا عثمان في عام ۱۹۹۱ حيث كنت قد خاطبت إدارة المتحف ووزارة الثقافة التركية التي يتبعها المتحف من أجل ذلك . ووافقت الوزارة مشكورة، وتم عقد اتفاق في سنة ۱۹۹۹ بين المركز والمتحف ينظم أسلوب التعاون وحقوق النشر (۳) . كانت أمنيتي أن نقوم بنشر هذا المصحف الذي ذاعت شهرته في الآفاق والذي لم يسبق أن نشر منه غير صور معدودة لبعض صفحاته. ولم يكن الأمر يسيراً، لأن نشره كان ينبغي أن يكون مصحوبا بدراسة له تبين حقيقة أمره وموقعه في تاريخ المصاحف القرآنية. وكانت بداية تحقيق هذه الأمنية أن أظهر الأستاذ الدكتور طيار التي قولاج، الرئيس الأسبق للشؤون الدينية بجمهورية تركيا وأحد علماء القراءات البارزين في زماننا، اهتمامه في عام ۲۰۰۲ بدراسة هذا المصحف (٤) .
وقد قام مشكوراً بإعداد هذا المصحف للنشر وقرأه وعارَضَه بما استقر عليه المصحف العثماني في يومنا هذا مستخدماً نسخة المصحف المطبوعة في مطبعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، وقدم له بدراسة ضافية عن مسألة رسم المصحف، وهل هو توقيفي أم غير ذلك . وبهذه المناسبة بين الدكتور طيار وهو الخبير بعلم القراءات رأيه في الكيفية التي يمكن للمصحف أن يكتب بها في يومنا هذا . وقارن بين هذا المصحف ومصحف طشقند الذي نسب هو الآخر إلى سيدنا عثمان، وأتبع ذلك بجدول يبين الفروق الإملائية بين المصاحف العثمانية . كما عرفتها المصادر المبكرة وبين مصحفي طشقند و طوب قابي .
والجدير بالتنويه هنا أن تحقيق الأمنية لم يكتمل إلا بالدعم السخي الذي قدمه حضرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، والذي عودنا في إرسيكا على كرمه في رعايته للأعمال الثقافية الجادة التي تخدم التراث الإسلامي والذي لم يدخر، حفظه الله، وسعاً في تحقيق آمال جسام لم يكن بالوسع القيام بها دون دعمه الخير. * * *
إن هذا المصحف الشريف الذي يحفظ أصله في متحف قصر طوب قابي كان قد أهدي للسلطان العثماني محمود الثاني في عام ١٢٢٦ هـ ( ۱۸۱۱م) من طرف والي مصر محمد علي باشا (٥) . وقد وضعت على بداية المصحف ( في الورقة (3) فقرة باللغة العثمانية محررة في ٢٠ جمادى الأولى سنة ١٢٢٦هـ ( ۱٢) حزيران (۱۸۱۱م) تبين بشكل واضح كيفية انتقال هذا المصحف الشريف إلى قصر طوب قابي والصورة التي حفظ بها في دائرة الأمانات المقدسة المعروفة باسم ( خرقه سعادت أوطه سي »، أي القسم الخاص بالقصر الذي أنشئ أيام السلطان سليم الأول، والذي حفظت به البردة الشريفة وكل ما يتعلق بآثار الرسول الكريم وصحابته رضوان الله عليهم . وتخبرنا العبارات المسطرة بخط الرقاع الجميل والمنمقة بأسلوب عثماني بديع أن هذا المصحف المكتوب بخط كوفي من «الظاهر والجلي ) هو من خط الخليفة عثمان وقلمه، وأن هذا معلوم لدى «الصغار والكبار »، وأنه كان محفوظا في خزانة ( قاهرة مصر، وأنه كان مصدر يمن وبركات ) لمدة مديدة، وأنه كان محل زيارات وتكريم وقراءة ( الأركان والأعيان ) و ( الساكنين بها والزائرين لها . وأن الوالي محمد علي أراد إهداءه إلى السلطان محمود الثاني المعروف بالسلطان محمود العدلي في سنة ١٢٢٦هـ باعتباره ( تحفة كريمة ) و ( هدية بهية » « لازمة التعظيم ، وأنه بهذا قد ( أرجعه إلى أصله ) حيث أن السلطان العثماني هو وارث ( الدين والدولة المحمدية »، وأنه لذلك قد وضع في دائرة الأمانات المقدسة وأن وصوله إلى يد السلطان هو فأل خير و باعث للفيض والبركة ، وأنه بوضعه في هذا المكان سيكون محلاً لـ « التعظيم والتكريم » . وقد حفظت هذه النسخة النادرة في القصر منذ عام ۱۸۱۱م حتى يومنا هذا ، وظلت كما جاء في هذه السطور، محل تعظيم الخلفاء من آل عثمان الذين جاءوا بعد السلطان محمود الثاني وكل من كان معهم من رجال الدين والدولة إلى نهاية عهد الخلافة العثمانية. ولما تحوّل القصر في عام ۱۹۲۸م إلى متحف مفتوح أمام عامة الزوار ظل المصحف الذي اشتهر بأنه أحد مصاحف سيدنا عثمان محل رعاية واهتمام إدارة المتحف، كما غدا مزاراً لكل المسلمين والمهتمين بالفنون والآثار الإسلامية . إن الحادثة التاريخية التي أشرنا إليها فيما سبق كانت هي السبب الذي أدى إلى اشتهار هذا المصحف الكوفي بأنه أحد المصاحف العثمانية، أي التي كتبت وانتشرت بأمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان وأرسلت إلى الأمصار المختلفة .
وكانت المصاحف الكوفية المبكرة – المكتوبة على الرق وذات الأحجام الكبيرة التي كانت تحفظ في الجوامع قد اشتهرت بين الناس بأنها مصاحف عثمان بن عفان . وهناك نماذج لهذه المصاحف في العواصم القديمة وإن لم تصلنا كاملة. ويذكر المقريزي في خططه ثلاثة من هذه المصاحف منها اثنان كانا في جامع عمرو بن العاص، وأحدهما تم نقله إلى المدرسة الفاضلية (٦) . وقد انتقل المصحف المحفوظ في المدرسة الفاضلية في نهاية المطاف في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ) إلى المسجد الحسيني بالقاهرة حسب رواية أحمد تيمور باشا (۷) . ولعل المصحف الذي أهداه محمد علي باشا إلى الخليفة العثماني هو أحد المصحفين الأخيرين اللذين ذكرهما المقريزي . إذ يروي المقريزي أن عبد العزيز بن مروان والي مصر من طرف أخيه عبد الملك بن مروان لما لم يكتف بالمصحف الذي أرسله إليه الحجاج أمر أن يكتب له مصحف عُرف فيما بعد بمصحف أسماء ( بنت أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان ) ، ووضع في المسجد الجامع ( جامع عمرو بن العاص ) للقراءة فيه حتى أتى رجل إلى مصر من أهل العراق وأحضر مصحفا ذكر أنه مصحف عثمان وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار وفيه أثر الدم . وكان إمام الجامع المذكور يقرأ فيه يوماً وفي مصحف أسماء يوماً حتى اقتصر على القراءة في مصحف أسماء، وذلك في ه محرم سنة ٣٧٨هـ ( ٢٦ إبريل ٩٨٨م ) . وقد نقل مصحف عثمان هذا أو المصحف الإمام فيما بعد إلى المدرسة الفاضلية، ومنها إلى أماكن أخرى حتى وصل إلى المشهد الحسيني سنة ١٣٠٥ هـ / ١٨٨٨م كما سبق أن ذكرنا .
ومما لا شك فيه أن نشر هذا المصحف سواء صحت نسبته إلى الخليفة عثمان بن عفان أو لم تصح – كما يتضح من الدراسة – يعتبر عملاً علميا ذا أهمية متعددة الجوانب . فنشره سوف يشكل حلقة هامة في السلسلة الذهبية لدراسة القرآن الكريم التي لها تقاليدها الراسخة في الأدبيات الإسلامية، كما أنه يفتح آفاقاً في الدراسات الحديثة لتاريخ القرآن الكريم. وهذا النشر سوف يكون مصدراً للمقارنة بما يثبت من نصوص أقدم من مصحف طوب قابي ، ونصوص كتبت بعده . وسوف يساعد على بيان خصائص الكتابات السابقة له واللاحقة عليه، ويضعها في منظور زمني. ومن أهم خصائص هذا المصحف أنه كامل باستثناء ورقتين – مما يضفي عليه أهمية خاصة بالمقارنة مع المصاحف الكاملة المؤرخة التي يرجع أقدمها إلى القرن الهجري الثالث ( التاسع الميلادي ) ، وسوف ييسر نشره النظر في تاريخ المصاحف والنص القرآني بصورة ترتيبية تاريخية ( كرونولوجية )، وهو كذلك سوف يتيح إمكانيات واسعة لدارسي علم المخطوطات ( الكود كولجي ) أي العناصر المادية للمخطوطات الإسلامية، وكذلك الدراسي تاريخ الكتابة العربية ( الباليوغرافي ) . ويقع هذا المصحف في ٤٠٨ ورقات من الرق بمقاس ٤٦٤١ ( ٤٠٣٢ ) سم ، وسمك ١١ سم. ويلاحظ الناظر في عموم هذا المصحف اختلاف سمك الأقلام والخطوط التي كتبت به، وهذا أمر جدير بالدراسة المتعمقة . ولكن يمكننا هنا أن نسوق على سبيل المثال لا الحصر الاختلاف الملحوظ بين الخطوط التي كتبت به الصفحات من (1) إلى (66) وتلك الصفحات المرقمة من (72) إلى (100) . كما يلاحظ أن عدد أسطر الصحيفة الواحدة في الأعم الأغلب ثمانية عشر سطراً . كما أن هناك عدداً من الصفحات التي تحتوي على ستة عشر أو سبعة عشر سطراً . بينما نجد أن أول وآخر صحيفتين من المصحف تحتويان كل منهما على أربعة عشر سطراً. وأن الصفحة
الأولى بها إضافات متأخرة بالمداد الأحمر في بداية كل من الفاتحة وسورة البقرة. ويمكن لنا أن نتصور أن بعض صفحات هذا المصحف قد غيرت لسبب أو لآخر ) لعطبها أو فقدانها ) ثم أعيدت كتابتها وضمت إلى نفس المصحف . وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن هذا قد تم في أوقات متقاربة . ولسوف يرى الدارس لمصحف طوب قابي الذي نحن بصدد التقديم له أن خطه الكوفي مكتوب بشكل متأنق بلغت فيه الحروف مرحلةً من التطور تبتعد به عن خطوط المرحلة الأولى التي كتبت فيها المصاحف المنسوبة إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه ( خلافته : ۲۳ – ٣٥ هـ / ٦٤٤ – ٦٥٦م ) ، والتي عرفت بالمصاحف العثمانية نسبة إلى أمره وزمان خلافته والتي كتبت على الرق، وكانت تتميز بالزوايا القائمة وبخلوها من علاما ت التمييز بين الحروف المتشابهة ومن علامات الإعراب والإعجام وكذلك من العلامات الفاصلة بين الآيات أو المميزة للأعشار والأخماس والأجزاء (۸) . بينما يرى الدارس المصحف طوب قابي هذا ، أنه التزم بنقط الحروف على طريقة أبي الأسود الدولي ( المتوفى سنة ٦٩ هـ / ٦٨٨ – ٦٨٩م ) ، وهي الطريقة التي ابتكرت بعد وفاة الخليفة عثمان ، إذ يلاحظ أن أسلوب كتابة الحروف متطور عن أسلوب الخطوط الكوفية الأولى من حيث تناسب أشكالها والتزام علامات الإعراب . وتتميز طريقة أبي الأسود الدؤلي في الإعراب بوضع النقط بمداد مختلف اللون عن المداد الذي كتبت به الحروف والتي تتلخص في قوله ( خُذ المصحف، وخذ صبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإذا اتبعت شيئا من هذه الحركات ( غُنة فأنقط نقطتين ) (۹) . ونرى في مصحف طوب قابي التزاماً بمنهج أبي الأسود الدؤلي في وضع علامات الإعراب بشكل دقيق، وذلك بوضع نقاط حمراء فوق وجانب وأسفل الحروف ونقطتين إذا كان هناك تنوين حسب القاعدة . وفيما يتعلق بإعجام الحروف فقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي ( ت ٩٥هـ / ٧١٤م) بعد تفشي ظاهرة التصحيف في قراءة القرآن الكريم قد أمر في أيام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ( ت ٨٦ هـ / ٧٠٥ م ) تلاميذ أبي الأسود الدؤلي بوضع إشارات على الحروف المتشابهة لمنع اللبس في نطقها، وهي المرحلة التالية على نقط الإعراب، وتتم بإهمال بعض الحروف المتشابهة وإعجام بعضها بنقاط أو خطوط صغيرة مائلة . وفي هذا المصحف الذي نحن بصدد نشره أمثلة غير مطردة على هذا الإعجام سوف نتناولها بالدراسة . أما الإصلاح الذي أتى به الخليل بن أحمد الفراهيدي ( المتوفى سنة ١٧٥هـ / ٧٩٧م)، والذي وضع فيه ثماني علامات للشكل عُرفت بشكل الشعر، وهي الفتحة والضمة والكسرة والسكون والشدة والمدة والصلة والهمزة، فلا نجد لها أثراً هنا، كما هو الحال في سائر المصاحف الكوفية المتقدمة. ولعل ما قاله الداني في هذا الصدد يوضح الحرج الذي لابس استخدام الشكل على طريقة الخليل والاكتفاء بالنقط على طريقة أبي الأسود
الدولي الأمر الذي استمر في بعض المصاحف إلى نهاية القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الهجريين . . وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق، اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين واتباعاً للأئمة السالفين ) (١٠) . وقد تعددت أشكال إشارات الإعجام بين نقط مجردة وخطوط صغيرة مائلة. أما النقط فهو المشهور، وهو يشبه نقط الإعراب، وهو ما يوجد في كثير من النماذج المؤرخة (١١) . أما نقط الإعجام الذي على هيئة خطوط مائلة، فقد اتخذت كصفة مميزة لإعجام المصاحف الكبيرة. وقد ظهرت ظاهرة الإعجام بالخطوط المائلة في كثير من النماذج للمصاحف المبكرة مثل مصاحف صنعاء، وتتكرر هذه الخطوط المائلة على الحروف، فخط واحد تحت حرف الباء وخطان مائلان على حرف التاء وثلاثة على حرف الثاء .. وكذا على الحروف المتشابهة الأخرى. وقد اتخذت هذه الخطوط المائلة نفس لون المداد الذي كتب به المصحف – أي مداد المتن – وبخط رفيع لتفريقها عن نقط الشكل الذي يكون مدوراً وبمداد بلون آخر (۱۲) . وباستعراض علامات الإعجام المستخدمة في هذا المصحف ومدى اطرادها يمكن لنا القول إن الخطوط القصيرة المائلة المكتوبة بخط رفيع جداً وبمداد أسود هي التي استخدمت كما جرى عليه العرف في المصاحف الكبيرة، وإن كان استخدامها ليس مطرداً عبر صفحات هذا المصحف . كما تميزت حروف الباء والتاء والثاء عن بعضها البعض بوضع حركة واحدة ) أي خط قصير مائل ) تحت الحرف في الباء وحركتين فوق الحرف في التاء وثلاث حركات فوق الثاء. ونرى أن شكل كتابة حرفي النون والياء يشبه الحروف الثلاثة السابقة، إلا أن حرف النون تميز بإعجامه بحركة واحدة فوقه والياء بحركتين أسفله. وفي هذه المجموعة المتشابهة نجد أن إعجام الثاء بحركاتها أقل اطرادا من بقية الحروف . أما في حروف الجيم والحاء والخاء، فقد أعجمت الجيم بحركة أسفل الحرف والخاء بحركة أعلاه، أما الحاء فقد أهملت، وإذا نظرنا إلى أزواج الحروف التالية [ د ذ ر ز س ش ؛ ط ، ظ، ؛ ع ، غ ] فلا نجد هناك إعجاماً لأي منها ، إذ ظل الأمر كما كان قبل استخدام علامات الإعجام . وفي نفس الوقت، نرى حرفي الصاد والضاد قد تم التفريق بينهما بإهمال الأول وإعجام الثاني بوضع حركة أعلاه . أما في حرفي الفاء والقاف فقد أعجم الأول بحركة من أعلاه والثاني من أسفله . والملاحظة العامة التي يمكن لنا أن نثبتها هنا هي أن حركات الإعجام هذه لم تتكرر بصورة منتظمة من أول المصحف إلى آخره، حتى إننا نرى أحياناً عدم اطراد هذه العلامات في الصحيفة الواحدة، على عكس ما نراه من اطراد يكاد يكون كاملا في علامات الإعراب، أي النقاط الحمراء . والآن لننظر بعد عنصر الكتابة إلى جوانب أخرى هامة في الدراسة الكودكولجية لهذا المصحف، ألا وهي أبعاده وأسلوب الزخرفة فيه .
إذ نرى أن مصحف طوب قابي ينتمي إلى مرحلة لاحقة للمرحلة التي كتبت فيها المصاحف التي أمر بها الخليفة عثمان بن عفان وتلك التي كتبت على نموذجها مباشرة. فلقد خلت النماذج المبكرة للمصاحف من عناصر الزخرفة لاعتمادها نموذج المصاحف العثمانية التي أرسلت إلى الأمصار والتي صارت مرجعا لكتابة المصاحف وشكلت الأساس للمرحلة الأولى. وفي المرحلة التالية بدأ إدخال عناصر الزخرفة الهندسية والنباتية في شكل فواصل السور والآيات . وبدأ رسم فواصل السور بشرائط فيما بينها، وفواصل الآيات بدوائر صغيرة كل منها يحمل عناصر زخرفية معينة ملونة بألوان متنوعة . وقد مكنتنا أوراق المصاحف التي تم اكتشافها في السنوات الأخيرة في سقف الجامع الكبير بصنعاء من تكوين فكرة واضحة عن المصاحف المبكرة، وخاصة المصاحف المكتوبة في العهد الأموي ( ٤١ – ١٣٢ هـ / ٦٦١ – ٧٥٠م ) . وتبين من العديد من صفحات المصاحف التي جرت دراستها أن مصاحف العهد الأموي كانت ذات طابع رأسي (vertical) على عكس المصاحف العباسية ذات الطابع الأفقي (horizantal) . كما تبين من الدراسة لبقايا بعض المصاحف الأموية أنها مزخرفة بطريقة فخمة، وأن زخارفها تشبه الزخارف الموجودة في قبة الصخرة والدارس الزخرفة فواصل السور والآيات في مصحف طوب قابي يمكن له اعتبارها نماذج مبكرة تحتوي المتقاطعة والعناصر الزخرفية القديمة الأخرى التي تركت مكانها في مرحلة تالية للعناصر الزخرفية ذات الطابع الإسلامي البحث. وهذه العناصر الزخرفية المبكرة تعتبر مادة بحثية نادرة لدارسي تاريخ الفن الإسلامي وتطوره بالقدس الشريف والجامع الأموي بدمشق والعديد من الآثار الأموية الأخرى (١٣) . فإذا نظرنا إلى مصحف طوب قابي وأبعاده لرأينا أنه ينتمي إلى مصاحف المجموعة الأولى، أي مصاحف العهد الأموي. كما نلاحظ تشابها كبيرا بين أسلوب زخرفته وأسلوب زخرفة نموذج مصحف صنعاء ( في اللوحة رقم ١ ) . العناصر الزخرفية الإسلامية في نشأتها الأولى. وبالنظر إلى الأمثلة المختلفة التي يقدمها لنا هذا المصحف يلاحظ وجود تأثيرات للفن البيزنطي المتقدم زمنياً على ظهور عناصر الفن الإسلامي للزخرفة وذلك من استخدام الخطوط وتأثره في طور النشأة بفنون الأمم المتقدمة على الإسلام بعد أن انتشر في أراضيها، وتأثر المسلمون بتراثها وتمثلوه وأبدعوا على أرضيته تراثهم الرائع. أما فواصل الآيات في مصحف طوب قابي ( بعد كل آية، وخمس آيات، وعشر آيات ) فإنها مرسومة على شكل دوائر صغيرة تحتوى على زخارف هندسية ونباتية متنوعة. ويلاحظ أن أغلبها مرسوم بالمداد الأسود فقط بينما جاء بعضها ملوناً، كما يلاحظ عدم تناسق بعض هذه العلامات من ناحية الشكل والحجم، فمنها ما صغر ومنها ما كبر (26) ( انظر المجموعة 1 / اللوحة (٢) . كما يلاحظ أيضا أنه أثناء كتابة المصحف لم يكن هناك اتساق دائماً في ترك فراغات مناسبة بين الآيات لوضع هذه العلامات فاضطر واضعها إلى تصغيرها تارة أو تكبيرها تارة أخرى أو وضعها فوق السطر . ونرى من فواصل الآيات بوجه عام أنها رسمت على شكل دوائر صغيرة، ويبدو من انتظام محيط الدائرة أنها كانت تطبع بقالب ثابت ثم ترسم الزخارف المختلفة في داخلها سواء كانت على شكل هندسي ( انظر المجموعة
/ اللوحة (٢ ) أو على شكل نبات النفل ( الوريقات الأربع ) ( انظر المجموعة III | اللوحة (٢ ) . ونرى بوضوح تأثر هذه الأشكال الهندسية بالفن البيزنطي، ومحاولات التخلص اللاحقة من تقاطعات الخطوط المستقيمة للبعد بها عن شكل الصلبان ( انظر المجموعة (II / اللوحة (٢ ) ، وإن كنا نرى في بعض الأحيان نماذج واضحة للتقاطع وتأثيرات أخرى للعهد السابق على الإسلام. كما نلاحظ وجود مجموعة مختلفة من فواصل الآيات في الأوراق 11 (2) ( انظر المجموعة 1 اللوحة ٢ ) ، حيث تأتي على شكل مجموعات من الدوائر وأنصاف الدوائر المتراكمة أو المتداخلة والتي رسمت باليد باستخدام اللون الأحمر بالإضافة إلى المداد الأسود. وهذه الإشارات موجودة فقط في الأوراق التي أشرنا إليها أعلاه ( انظر أشكال المجموعة الأولى ) . وإذا أخذنا في الاعتبار ما أبديناه من ملاحظة على اختلاف الخط في هذه الأوراق عن بقية المصحف وكما ذكرنا من قبل لأمكننا القول إن هناك عمليات وضع أوراق جديدة ربما حدثت بدلا من تلك التي عطبت أو ضاعت . ويلاحظ هنا أن هذا المصحف يتميز بوضع فواصل دائرية ذات حجم أكبر بعد كل خمس أو عشر آيات وكذلك فاصله مستطيلة الشكل بعد كل مائة آية . وقد لونت هذه الفواصل بألوان مختلفة عن بقية الفواصل . كما نرى أن العديد من الفواصل المستطيلة – وإن لم تكن كلها – قد احتوت في داخلها على كلمة “مئة”. كما نلاحظ وجود فاصلة مستديرة أخرى بعد كل مائتي آية كتب في وسطها لفظ “مئتين ( انظر اللوحة (٣ ) . وهذا يتكرر في سورة البقرة (١٤) وآل عمران والشعراء . أما سورة آل عمران التي تنتهي بالآية مائتين فلم ترد فيها هذه الفاصلة . وقد رسمت فواصل السور متمددة أفقياً على هيئة مستطيل عريض ينتهي طرفه أحياناً بتقوير مشع . وقسمت الفواصل في داخلها إلى مثلثات ومربعات صغيرة غير متطابقة لوّنت بالأحمر والأخضر والأصفر والأسود ( انظر اللوحة ٤ ) . ويلاحظ أن فواصل السور لم تأخذ شكلاً نمطياً، ومن الواضح أن من قام بالزخرفة كان يملأ الفراغات الموجودة بين السور كما راق له الأمر. ونلاحظ في كثير من الأحوال أن المزخرف كان يتجنب طمس الحروف بالألوان فيعرج الخطوط الزخرفية لتظهر الحروف واضحة. كما أن المعوذتين في آخر المصحف (408) كتبتا ضمن دائرة زخرفية محددة بخطين متوازيين بالحبر الأحمر، ويلاحظ وجود آثار زخارف أخرى خارجهما، ويبدو أن هذه الزخارف تأثرت من ظروف الجو كالحرارة والرطوبة وغيرها . وإذا قارنا مصحف طوب قابي بمصاحف القيروان المكتوبة على الرق لوجدنا بينها ملامح مشتركة . والدراسة المقارنة بين هذه النسخ من ناحية الخطوط التي كتبت بها والزخارف التي زينتها تبين أن صناعة المصاحف في تلك المرحلة قد قطعت شوطاً معيناً، وأن القواسم المشتركة أصبحت موجودة (١٥) . ومن بين النسخ التي توجد في متحف القيروان، فقد أمكننا الاطلاع بفضل الأستاذ إبراهيم شبوح على بعض صور لثلاث نسخ منها [ رقم ٩ ، ٢٢ ، ٣٣]، ورأينا أن أقرب النسخ شبها بمصحف طوب قابي هي النسخة المحفوظة تحت رقم ٢٢ على عكس
المتوقع بأن تكون النسخة رقم ٩ والتي عرفت هي أيضا بأنها أحد مصاحف عثمان . ففي نسخة القيروان رقم ۲۲ (١٦) رسمت علامات الإعراب على شكل نقاط باللون الأحمر على طريقة أبي الأسود الدؤلي، وعلامات الإعجام بالخطوط المائلة الدقيقة ( المكتوبة بالمداد الأسود ( كما هو الحال في نسخة طوب قابي، بينما نجد أن إشارات الإعراب في النسخة رقم ٩ كانت بالخطوط المائلة الدقيقة المكتوبة باللون الأحمر (۱۷) . إلا أن هذه النسخة تتميز بوجود فواصل السور والآيات، وأسلوب زخرفة هذه الفواصل تجعل هذا المصحف أقرب النسخ الثلاث مظهراً إلى مصحف طوب قابي . إن هذه العناصر الخطية وكذلك العناصر الزخرفية التي سبقت الإشارة إليها في اختصار تدل على أن هذا المصحف لا يعود إلى عهد المصاحف الأولى التي عُرفت باسم المصاحف الأئمة التي ذكر المؤرخون أن الخليفة عثمان أمر بكتابتها وإرسالها إلى الأمصار . وهنا تجدر الإشارة إلى ما قاله ابن خلدون ( ۷۳۲ – ۸۰۸هـ / ۱۳۳۲ – ١٤٠٦م) في مقدمته من أن الخط العربي لأول الإسلام كان غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع . ويبرر ابن خلدون هذا بقوله إن الكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس (١٨) . ثم يشير ابن خلدون إلى تطور فن الخط عند العرب بقوله إنه لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار، وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعلموا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه، فترقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد . والمصحف الذي نتشرف اليوم بنشره ينم – كما نرى – عن تطور ملحوظ في فن الخط والكتابة وطريقة صف الكلمات على سطر مستقيم مستمر، وتناسب في الحروف إلى حد كبير، ووجود علامات الإعراب على شكل نقاط بالمداد الأحمر وعلامات الإعجام على شكل خطوط مائلة دقيقة بنفس المداد الأسود الذي كتب به المتن، بالإضافة إلى العناصر الزخرفية الأخرى التي يحتويها ؛ ومن ثم فهو لا يمثل المرحلة الأولى للمصاحف . وإذا أخذنا في نظر الاعتبار أبعاده وأسلوب زخرفته فإن أغلب الظن أنه من نتاج العصر الأموي. ولا شك أن المصحف بصفاته تلك يعتبر واحداً من أقدم المصاحف الكاملة التي حفظها لنا التاريخ ( باستثناء ورقتين ضاعتا خلال مسيرة المصحف التاريخية ) ويتم نشره اليوم. وهو يمثل حلقة نادرة في السلسلة الذهبية المباركة للقرآن الكريم منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وبه يتجلى المعنى الكريم في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون ) (١٩) .
الأستاذ المشارك
الدكتور خالد أرن
مدير عام إرسيكا