الحمد الله حقٌّ حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده. وبعد، فقد سخر الله خَلْقًا لحراسة وحيه على مر الدهور وتعاقب الأجيال، وجعل كلا ميسر لما خلق له، ليقوم الناس بمصالح آخرتهم ودنياهم.
ولا شك أن أهل الحديث – على قلتهم وغربتهم – قد شرفهم الله تعالى بوظيفة حمل العلم، ونشر السنة النبوية المشرفة وحراستها من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، وقد حملت هذه الطائفة مشاعل الهداية في دياجير الظلم، فَأَخْلَصُوا وَنَصَحُوا، وَعَدَّلُوا وجرحوا وبينوا ووَضَّحوا، فجزى اللهُ سَلَفَهم وخَلَفَهم كل خبر وحَشَرَنا وإياهم مع صاحب المقام المحمود والحوض المورود عليه الصلاة والسلام.
وقد تنوعت وسائل حفظ السنة النبوية تحملاً وأداء، وتطورت أساليب صيانتها وإذاعتها بين الناس وصمد أهل العلم على هذه المهمة النبيلة، وبذلوا في سبيلها المُهَج والأرواح، وركبوا لأجلها مُتُونَ الخطر حتى أوصلوا السنة النبوية لمن بعدهم بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يَتَنكَّب طريقها إلا ضال.
وكان من بين هذه الوسائل ما عرف بـ«الأمالي الحديثية التي كان يعقدها العلماءُ عَبْرَ مجالس مُنَظَّمةٍ من حيث الزمان والمكان والحضور والمادة والمملاة. وغالبًا ما يتصدَّرُ المحدِّثُ مَجْلِسَ الإملاء بعد تقاعده من التدريس، فيفيـض مــن واسع حافظتـه مـا يسمح به الخاطر بحكم الظرف أو المناسبة التي تستدعي الاستجابة من العالم أن يعيش واقع الحياة مع الناس، فيوجههم بنصوص نبوية مختومة بنوادر ومُلح يمليهـا فـي مجلسه المعقود للإملاء، فتكون نبراسا يهتدى به فيصح بها المعوج من السلوك، وير] الشارد واللاهي إلى ميدان الهدى والصلاح.
وقد انتبه العلامة الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي ت: (٧٩٥هـ) لهذه المسألة، فألف كتابا رائقًا أسماء: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف وإن كان يغلب عليه المنهج الوعظي القائم على التذكير والنصح مغضيـا عـن ضعف بعض ما أورد فيه، إلا أنه دار في فلك الإصلاح وتقويم السلوك، ذاك الغرض الذي كانت تعقد من أجله مجالس الإملاء في غالب الأحيان.
وما من شَكٍّ أن مجالس الإملاء قد شاركت في بناء نهضة الأمة وإقلاعها نحو الأفضل، وإنّكَ لَتعجب إذا ما كان مجلس الإملاء يحضرُهُ عَشَرات الألوف من التلاميذ والعامة، حتى إن أحدهم ليأتي مع السَّحَرِ لينال مقعدًا فيجد المجلس قد امتلا! أي أمة هذه؟ وأي بيئة علمية تلك؟ يحق لهذه الأمة التي كان هذا شأنها أن تكون هي المُقدمة على غيرها بقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتنهونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ..} [آل عمران: ١١٠].
لقد انبرى الأخ الفاضل، والصديق الحميم الدكتور رياض بن حسين الطائي لتأليف جزء حديثي أسماه: «الأمالي الحديثية، مدخل إلى معرفة دورها العلمي وأثرها التربوي في التاريخ الإسلامي وبعث لي بجزئه هذا طالبًا مني التقديمَ لهُ، مُحْسِنَا الظَّنَّ بي، مُسْتروحًا إلى ما عهده مني من ثقتي بقلمه الرصين – ويحق له هذا الاسترواح – منذ أيام الطلب، وتدريسي مساقاتٍ مختلفة في تخصص الحديث الشريف بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في عمان البلقاء المحروسة، فلم أجد بدا من تلبية طلبه، راجيا من المولى عَزَّ وجَلَّ أن يلهمني الصواب وأن يثبتني بالسداد والرشاد.
وقد تناول الأخ الدكتور رياض الطائي موضع الأمالي الحديثية وأثرها التربوي في التاريخ الإسلامي عبر أربعة مباحث؛ كلما طالعت مبحثا شَدَّني شوقاً لمطالعة المبحث الذي يليه، فكنتُ أسرح الخاطر في مادته؛ متنقلاً فيه من روض إلى روض، ومن زهرة إلى زهرة. والحق أن الكاتب قد وفّى المقام حقه بقلمه السيال؛ فبين مفهوم الأمالي، وفضل مجالسها، وفوائدها، وصفاتها، وعناصرها، وآثارها التربوية في تقويم السّلوكِ، وإصلاح الأنام، فهو بهذا الجهد المبارك جلى أثر السنة المشرّفة وواجبَ حَمَلَتِها تجاه الأمة في مراعاة مصالحها عبر مناسبات الزمان والمكان المتكرّرة.
إن إحياء سنة الأمالي واجب تمليه المصلحة العامة والظروف التي أحاطت بنا من كل صوب، والرجاء معقود على لواء أهل السنة لتنطلق هذه الأمة العظيمة من عقال الكسل والهوان إلى ميدان العز والمجد؛ مستلهمة ما ورثته عن نبيها من سنن مأثورة.
إن واجب أهل الحديث وحماة السنة أن يقودوا الناس نحو الخير في ضوء الهدي النبوي بكلِّ وسيلة من وسائلِ عَصْرهم، فَسَلَفنا صمد و المهمة توجيه سلوك الأنام، ورعاية مصالحهم عبر مجالس الإملاء المختلفة في كل مناسبة أو طاري يحل على الأمة، فهل نحن على آثارهم سائرون، وعلى دربهم ماضُونَ؟
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحقق لهذه الأمة عِزَّها ونَصْرَها، وأن يمكن لها في الأرض، إنه نعم المولى ونعم النصير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
سلطان بن سند العكايلة
في مدينة الكويت المحروسة
ظهر يوم الثلاثاء ٧ صفر ١٤٤٠هـ يوافقه ٢٠١٨/١٠/١٦م