موضوع المكي والمدني في القرآن الكريم ذو أثر كبير في التفسير، من جهة معرفة تاريخ النزول والمتقدم من المتأخر في ذلك، ومن ثم معرفة الناسخ والمنسوخ من الآيات، وما استقرت عليه الأحكام، ولأهمية الموضوع كانت هذه الدراسة موثقة في تعريفه وإضافة مزيد من ضوابطه ومحاولة تحديد سوره.
وحول تحديد المكي والمدني والضابط فيها يقول الدكتور مساعد الطيار:
“لقد كان للسلف طريقتان في التعبير عن النُّزول :
الأولى : روايات تذكر كل السور ، وتميز مكيها من مدنيها .
الثانية : روايات متفرقة تذكر المكي من المدني ، ويكثر في هذه الروايات الإشارة إلى أماكن نزول الآيات .
وفي كلا الطريقتين لم يقع منهم نصٌّ مباشر على الزمان ( قبل الهجرة ، وبعد الهجرة ) .
بل كان الوارد عن بعض الصحابة التنبيه على معرفة المكان دون الزمان ، كالوارد عن ابن مسعود قال : (( والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت ، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه )) ( )، وقد ورد هذا المعنى عن غيره من السلف .
أما الطريقة الأولى ، فقد ورد فيه روايات عديدة عن بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم ، ومنها – على سبيل المثال – ما رواه البيهقي ( ت : 458 ) بسنده عن عكرمة ( ت : 105 ) ، والحسن البصري ( ت : 110 ) ؛ قالا : (( أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ، ون ، والمزمل ، والمدثر ، وتبت يدا أبي لهب ، وإذا الشمس كورت ، وسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، والفجر ، والضحى ، وألم نشرح ، والعصر ، والعاديات ، والكوثر ، وألهاكم التكاثر ، وأرأيت ، وقل يا أيها الكافرون ، وأصحاب الفيل ، والفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، وقل هو الله أحد ، والنجم ، وعبس ، وإنا أنزلناه ، والشمس وضحاها ، والسماء ذات البروج ، والتين والزيتون ، ولإيلاف قريش ، والقارعة ، ولا أقسم بيوم القيامة ، والهمزة ، والمرسلات ، وق ، ولا أقسم بهذا البلد ، والسماء والطارق ، واقتربت الساعة ، وص ، والجن ، ويس ، والفرقان ، والملائكة ، وطه ، والواقعة ، وطسم ، وطس ، وطسم ، وبني إسرائيل ، والتاسعة ، وهود ، ويوسف ، وأصحاب الحجر ، والأنعام، والصافات ، ولقمان ، وسبأ ، والزمر ، وحم المؤمن ، وحم الدخان ، وحم السجدة، وحمعسق ، وحم الزخرف ، والجاثية ، والأحقاف ، والذاريات ، والغاشية، وأصحاب الكهف ، والنحل ، ونوح ، وإبراهيم ، والأنبياء ، والمؤمنون ، وآلم السجدة ، والطور ، وتبارك ، والحاقة ، وسأل ، وعَمَّ يتساءلون ، والنازعات، وإذا السماء انشقت ، وإذا السماء انفطرت ، والروم ، والعنكبوت .
وما نزل بالمدينة : ويل للمطففين ، والبقرة ، وآل عمران ، والأنفال ، والأحزاب ، والمائدة ، والممتحنة ، والنساء ، وإذا زلزلت ، والحديد ، ومحمد ، والرعد ، والرحمن ، وهل أتى على الإنسان ، والطلاق ، ولم يكن ، والحشر ، وإذا جاء نصر الله ، والنور ، والحج ، والمنافقون ، والمجادلة ، والحجرات ، ويا أيها النبي لم تحرم ، والصف ، والجمعة ، والتغابن ، والفتح ، وبراءة )) ( ).
قال البيهقي : (( والتاسعة يريد بها سورة يونس . قال : وقد سقط من هذه الرواية الفاتحة ، والأعراف ، وكهيعص فيما نزل بمكة )) ( ).
وأما الطريقة الثانية ، ففيها روايات عديدة ، منها ما رواه البخاري ، قال : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب (( أن أناسا من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.
فقال عمر : أية آية ؟
فقالوا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ] المائدة : 3 [ . فقال عمر : إني لأعلم أي مكان أنزلت ؛ أنزلت ورسول الله واقف بعرفة )) ( ).
فهذه الروايات وغيرها تدل على أنَّ السلف كانوا يُعنون بذكر المكان الذي نزلت فيه السورة أو الآية ، لكن لا يعني هذا أنهم كانوا يُغفلون الزمان الذي ضبطه بعض أتباع التابعين بضابط الهجرة ، فما كان قبل الهجرة فهو مكي ، وما كان بعد الهجرة فهو مدني ، فهذا الضابط ، وإن لم ينصوا عليه إلا أنهم يعملون بفحواه ، فهل يُتصوَّر أن يكون نزول آية إكمال الدين في مكة قبل الهجرة ؟
بالطبع لا ، فقول عمر : (( أنزلت ورسول الله واقف بعرفة )) يتضمن نزولها بعد الهجرة ؛ لأن حجة الوداع كانت بعد الهجرة قطعًا ، ولم يكن هناك داعٍ لأن يقول عمر : نزلت بعد الهجرة ، ولا كان من مصطلحات الصحابة والتابعين وكثير من أتباع التابعين( ) .
وأول من رأيته نصَّ على هذا الضابط الزماني يحيى بن سلام البصري ( ت : 200) قال : (( … وإن ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي المدينة فهو من المكي .
وما نزل على النبي في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني )) ( ).
وهذا الضابط الزماني هو الذي اعتمده العلماء المتأخرون ، وسارت به الكتب بعدهم .
ولكن المقصود هنا التنبيه على أنه لا تعارض بين مذهب السلف في التعبير عن النُّزول بالمكان ، وما ذهب إليه المتأخرون من العلماء من أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي ، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني ؛ لأن السلف كانوا يعتنون بذكر المكان ، ويعملون بالزمان في تطبيقاتهم التفسيرية ، ومما يدل على ذلك ما يأتي : قال سعيد بن منصور حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال : (( سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى : ومن عنده علم الكتاب ] الرعد : 43 [ أهو عبد الله بن سلام ؟ فقال : كيف ؟ وهذه السورة مكية )) ( ).
ويمكن تلخيص القول في هذه المسألة بأن يُعتبر المصطلحان معًا بحيث يكون في ذكر مكان النُّزول إشارة إلى ضابط الزمان إن احتاج الأمر إلى ذلك .
وإذا تأملت ذلك وجدت :
1 – أن كل ما وُصِف من القرآن بأنه مدني فلا يدخله اللَّبس ، فما وصف بالمدني فهو بعد الهجرة لا قبلها قطعًا .
2 – أنَّ الأماكن التي ثبت أن الرسول إنما ذهب إليها بعد الهجرة ؛ – كبعض غزواته : غزوة بني المصطلق وغزوة تبوك – لا يمكن أن يقال : إنها من المكي ؛ لأنها بعد الهجرة .
3 – يبقي الأمر في بعض السور والآيات التي نزلت بمكة بعد الهجرة ، وهي قليلة بالنسبة لسور وآيات القرآن .
وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة إلى الترجيح بين المصطلحين – كما ذهب إليه بعض من كتب في المكي والمدني – لأمن اللبس في أغلب نزول القرآن من هذه الجهة ، والله أعلم “