مناظرة بين الإسلام والنصرانية- الجزء السادس

مناظرة أظهرت حقائق عن النصرانية يجهلها كثير من الناس . وانتهت باعلان القساوسة المناظرين دخولهم في الإسلام والتبرؤ من أفكار النصرانية المضللة.

النسخ

ويسألونك عن القرآن . . . كيف نسخ الكتب التي سبقته ؟
ولماذا لم يقم المسلمون بنفس الدور الذي فعله النصارى مع أسفار العهد القديم . . لقد اعترفوا بها وأقروها . . بل وطبعوها مع أناجيلهم في كتاب واحد . . أطلقوا عليه الكتاب المقدس !!
ونقول لهؤلاء السائلين ، إن ما تدعونه وتزعمونه أمور شكلية ظاهرية ، يخالفها الواقع وحقيقة الأمر . . . !
فإذا كنتم تطبعون (العهدين معًا) . . .
فإنكم لا تأخذون بما في (العهدين معًا) . . .
وإليكم هذه الأمثلة .

1- الطلاق :
يجوز في (العهد القديم) أن يطلق الرجل امرأته لأي علة ، وأن يتزوج رجل آخر بتلك المطلقة بعدما خرجت من بيت الأول .
” إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها ، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر ” (سفر التثنية 24 : 1-2) . بينما لا يجوز في (العهد الجديد) الطلاق إلا بعلة الزنى .
وكذلك لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة بل هو بمنزلة الزنى .
” وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق . وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني ” (إنجيل متى 5 : 31- 32) .

” وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب . فأجاب وقال لهم : أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى ، وقال : من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا . إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد . فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان ، قالوا له فلماذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق ؟ قال لهم : إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم . ولكن من البدء لم يكن هكذا ، وأقول لكم : إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني ، والذي يتزوج بمطلقة يزني ” (إنجيل متى 19 : 2-9) .
فعلم من جواب عيسى للفريسيين أن هذا الحكم نسخ مرتين ، مرة في شريعة العهد القديم ، ومرة في العهد الجديد .

2- المحرمات :
كانت حيوانات كثيرة محرمة في شريعة (العهد القديم) ونسخت حرمتها في شريعة (العهد الجديد) وتقررت الإباحة بفتاوى بولس ، نلاحظ ذلك إذا قرأنا هذين النصين :
” إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيِء نجسًا بذاته إلا من يحسب شيئًا نجسًا فله هو نجس ” (رسالة بولس إلى أهل رومية 14 : 14) .
” كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرًا بل قد تنجس ذهنهم أيضًا وضميرهم ” (رسالة بولس إلى تيطس 1 : 15) .

3- السبت :
كان تعظيم السبت حكمًا أبديًّا في شريعة (العهد القديم) وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل وكان من عمل فيه عملًا ولم يحافظ على حرمته يقتل .
وقد تكرر بيان ذلك الحكم في مواضع كثيرة من أسفار (العهد القديم) .
” اذكر يوم السبت لتقدسه ، ستة أيام تعمل وتصنع جميع أعمالك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك ، لا تصنع عملًا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك ، وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ” (سفر الخروج 20 : 8- 11) .

” وكلم الرب موسى قائلًا : وأنت تكلم بني إسرائيل قائلًا : سبوتي تحفظونها لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم فتحفظون السبت ؛ لأنه مقدس لكم ، من دنسه يقتل قتلًا ، إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها ، ستة أيام يصنع عمل ، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدس للرب . كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا ، فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا . هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد ؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفس ” (سفر الخروج 31 : 12-17 ) .
وكان اليهود المعاصرون للمسيح يؤذونه ، ويترصدون لقتله ، ويتربصون به بحجة أنه لا يعظم السبت .
” ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت . فأجابهم يسوع . أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه ؛ لأنه لم ينقض السبت فقط ، بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلا نفسه بالله ” (إنجيل يوحنا 5 : 16-18) .

” فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله ؛ لأنه لا يحفظ السبت ” (إنجيل يوحنا 9- 16) .

4- الختان :
كان حكم الختان أبديًّا في شريعة إبراهيم عليه السلام ، تقول أسفار (العهد القديم) :
” وقال الله لإبراهيم . وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم . هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك ، يختن منكم كل ذكر ، فتختتنون في لحم غرلتكم ، فيكون علامة عهد بيني وبينكم ، ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم ، وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك ، يختن ختانًا وليد بيتك والمبتاع بفضتك فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا . وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي ” (سفر التكوين 17 : 9- 14) .
وقد بقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وأولاد إسحاق عليهما السلام . وختن عيسى عليه السلام نفسه ، كما جاء في أسفار (العهد الجديد) .
” ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن ” (إنجيل لوقا 2-21) .
وظل هذا الحكم ساريًا إلى أن جاء بولس فنسخه .

” ها أنا بولس أقول لكم . إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا لكن أشهد أيضًا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس . سقطتم من النعمة . فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر ؛ لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة ” (رسالة بولس إلى غلاطية 5 : 2- 6) .

5- نسخ جميع أحكام (العهد القديم) :
ثم . . قام التلاميذ بعد ذلك بنسخ جميع الأحكام العملية في (العهد القديم) ولم يبقوا إلا على أحكام أربعة :
1- ذبيحة الصنم .
2- الدم .
3- الحيوان المخنوق .
4- الزنى .
فأبقوا حرمة هذه الأشياء الأربعة وأرسلوا بذلك كتابًا إلى سائر الكنائس للعمل بمقتضاه .
وهذا نص الرسالة :

” حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنائس أن يختاروا رجلين منهم ليرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا يهوذا الملقب برسابا وسيلا رجلين متقدمين في الأخوة ، وكتبوا بأيديهم هكذا . الرسل والمشايخ والأخوة يهدون سلامًا إلى الأخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية إذ قد سمعنا أن ناسًا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس الذي نحن لم نأمرهم رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح . فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهًا ؛ لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلًا أكبر غير هذه الأشياء الواجبة . أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمًا تعملون وكونوا معافين ” (أعمال الرسل 15 : 22- 29) .
ثم ماذا ؟
ثم تقدم بولس خطوة ثانية . . . فنسخ حرمة الثلاثة الأولى ، فلم يبق من أحكام (العهد القديم) العملية إلا حرمة الزنى .
وحتى الزنى يعتبر منسوخًا أيضًا ؛ لأنه لا حد فيه .

وبهذا تكون أحكام العهد القديم كلها منسوخة ، يقول بولس :
” مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فِيَّ ، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي ، لست أبطل نعمة الله ؟ لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذًا مات بلا سبب ” (رسالة بولس إلى غلاطية 2 : 20- 21) .
يقول الدكتور همند في تذييله على الفقرة 21 ، هذه :
” يقول -أي بولس – إنه لا يعتمد في النجاة على شريعة ولا يفهم أن أحكام موسى ضرورية ، لأن إنجيل المسيح حينئذ يصبح بلا فائدة ” .
ويقول بولس أيضا :
” لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة ؛ لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع كل ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به . ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر ؛ لأن البار بالإيمان يحيا ، ولكن الناموس ليس من الإيمان بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها . المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا ” (رسالة بولس إلى غلاطية 9 : 3-13) .
ويقول ( لارد ) في تفسيره لهذه الفقرة (1) :
” المعنى الذي يريده الحواري هنا . نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه ” .
_________
(1) جـ9 ، ص487.

ثم يقول : ” بيَّن الحواري صراحة أن أحكام شريعة الرسوم نسخت نتيجة موت يسوع ” .
وهكذا نسخ (العهد الجديد) . . أحكام (العهد القديم) .
وإن بقي الشكل . . والصورة . . . يوحي بعكس هذا . .
إذ نجد (النصارى) يصرون على إلحاق كتبهم المقدسة بكتب اليهود المقدسة !!
أما (القرآن الكريم) . . . فهو كتاب (مهيمن) . . .
ما قاله هو الحق الذي لا شك فيه . . . !
وما نفاه فهو الباطل الذي لا شك فيه . . . !
وما سكت عنه . . . فهو علم لا ينفع ، وجهل لا يضر !!
إن القرآن الكريم هو الصباح المشرق الباهر . . . الذي جاء فأطفأ القناديل والشموع . . . كل القناديل وكل الشموع !!

القرآن والكتب السوالف
ويتفرع من هذا السؤال عن (النسخ) سؤال آخر ، يدور حول موقف (القرآن الكريم) من الكتب السابقة ، كأسفار العهد القديم ، وأسفار العهد الجديد ؟
ونوجز الإجابة -أولا- ثم نفصلها بعد ذلك .
فنقول في إيجاز : إن كل رواية من روايات هذه الكتب ، إن صدقها القرآن الكريم فهي مقبولة يقينًا ، وإن كذبها فهي مردودة يقينًا ، وإن سكت القرآن الكريم عن تصديقها وتكذيبها سكتنا نحن أيضًا عنها فلا نصدق ولا نكذب .
ونقول في تفصيل :
أولًا- القرآن مصدق :
قال الله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . (1)
وقال تعالى : { الم }{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } (2)
وربما فهم البعض من تصديق القرآن للكتب السابقة عليه أنه يزيل الاتهام عنها ، ويقر بما جاء فيها ، حتى ولو كان مغيرًا مبدلًا محرفًا !
وذلك فهم سقيم ، وغير سليم .

_________
(1) سورة المائدة ، 48.
(2) سورة آل عمران ، الآيات 1-4.

ثانيًا- القرآن مهيمن :
لأنه في الوقت الذي سمى الله فيه القرآن (مصدقًا) سماه (مهيمنًا) . قال تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (1)
المهيمن : الشاهد المؤتمن الحاكم ، فيشهد بما في هذه الكتب من الحق ، ويبين ما حرف فيها ، ويحكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها ، وينسخ ما نسخه الله منها ، وهو مؤتمن عليها في ذلك كله .
قال ابن جريج : ” القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم ، فإن كان في القرآن فصدقوه ، وإلا فكذبوه ” .
وأورد البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الشهادات وغيره : ” يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله ، تقرأونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب ، وقالوا { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } (2)
أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلًا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم ” .
_________
(1) سورة المائدة ، آية 48.
(2) سورة البقرة آية 79.

وقد روى أحمد من حديث جابر مرفوعًا : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا » .
ثالثًا- الكتب السوالف تؤيد القرآن :
قال الله تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ }{ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } (1)
وهذه الآية الكريمة لا تدل عاد وقوع الشك ، ولا على وقوع السؤال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكًّا ، ولا سأل أحدًا منهم ، بل روي عنه أنه قال : « والله لا أشك ، ولا أسأل » .
ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم من الأدلة والبراهين ما يؤيدك ، ويصدقك فيما كذبك فيه الكافرون .
كما قال الله تعالى في آية أخرى { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } (2)
_________
(1) سورة يونس ، آية 99.
(2) سورة الرعد ، آية 43.

وقال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1)
وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (2)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ }{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (3)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا }{ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا }{ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } (4)
_________
(1) سورة الأحقاف ، آية 10.
(2) سورة الشعراء ، آية 197.
(3) سورة القصص ، الآيات 51-53.
(4) سورة الإسراء ، الآيات 107-109.

وقال تعالى { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (1)
وقال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } (2)
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (3)
وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (4)
_________
(1) سورة المائدة ، الآيتان 82-83.
(2) سورة النساء ، آية 162.
(3) سورة الأنبياء ، آية 7.
(4) سورة البقرة ، آية 146 . سورة الأنعام ، آية 20.

وهذه الآيات البينات ، تؤكد لنا أن الكتب القديمة ، فيها إشارات وبشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبملته ، وبأمته . . .
وقد يقول قائل : ألا تحتمل هذه الآيات أن ما في أيدي أهل الكتاب صحيح لم يحرف ؟
ونقول : إن هذه الآيات لا تتحدث عن التحريف ، فلذلك موضع آخر في (الكتاب العزيز) سنتناوله بالحديث فيما بعد إن شاء الله وقدر . . .
لكنها تشير إلى عدة حقائق جحدها الكفار ، وهي مذكورة مسطورة عند أهل الكتاب ، وفي كتبهم .
وهذه الحقائق هي :
الحقيقة الأولى : أن الكتب المتقدمة تؤكد أن موسى وغيره من رسل الله عليهم صلوات الله وتسليماته ، دعوا إلى عبادة الله وحده ، ونهوا عن الشرك ، فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين ، قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (1)
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (2)
_________
(1) سورة الزخرف ، آية 45.
(2) سورة الأنبياء ، آية 25.

وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (1)
الحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب يعلمون أن الله أرسل إلى الناس بشرًا مثلهم ، ولم يرسل إليهم ملائكة .
فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكًا ، أو بشرًا معه مَلَك ، ويتعجبون من إرسال رسول بشري ليس معه ملك ظاهر كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا }{ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } (2)
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (3)
_________
(1) سورة النحل ، آية 36.
(2) سورة الإسراء ، الآيتان 94-95.
(3) سورة الأنبياء ، آية 7.

الحقيقة الثالثة : أن يسألوا أهل الكتاب -ولا شك أن عندهم بهذا إشارة من علم- عما جرى للرسل مع أممهم ، وكيف كانت عاقبة المؤمنين بهم ، وعاقبة المكذبين لهم .
الحقيقة الرابعة : أن يسألوا أهل الكتاب عن أصول الدين الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ، وهو دين الإسلام ، وعن أوامره ونواهيه ، كالأمر بالتوحيد ، والصدق ، والعدل ، والبر ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وكالنهي عن الشرك والظلم ، والفواحش ما ظهر منها وما بطن .
الحقيقة الخامسة : يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم غير موافق ؟
الحقيقة السادسة : يسألونهم – يهودًا كانوا أم نصارى – عما لديهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، التي تحدث القرآن الكريم عنها ، في مثل قوله تعالى :

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (1) وقوله تعالى { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } (2)
فإن قال قائل : فإن أهل الكتابين لا يصدقون هذه البشارات ولا يقولون بها ؟
_________
(1) سورة الأعراف ، الآيتان 156 ، 157.
(2) سورة الصف ، آية 6.

قلنا له : هذا مستحيل عقلًا ؛ لأن الكثيرين من علماء أهل الكتاب وعامتهم ، دخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم ، وما كان لهم أن يدخلوا ذلك الدين الذي يكذب عليهم في أوضح ما لديهم من مقررات .
فإن قال قائل : إذا كنتم تعتمدون على كتبنا في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتبشير به ، فإن كتبنا على هذا تكون صحيحة ، ومبرأة عما وصفتموها به من التبديل والتحريف ؟
قلنا له : إن هذه التوراة والإنجيل فيها حق ولا طل . . . وقد اختلط هذا بهذا . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم »{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (1)
وينقل الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث قول الشافعي :
” أي : إذا كان ما يخبرونكم به محتملًا ، لئلا يكون في نفس الأمر صدقًا فتكذبوه ، أو كذبًا فتصدقوه ، فتقعوا في الحرج ، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه ” .
_________
(1) سورة العنكبوت ، آية 46.

ولا شك أن البشارات بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من النوع الذي تواطأ على الإخبار به ما جاء في القرآن الكريم ، وما أقرته كتب القوم ، وقد أسلفنا في حديث (الشيخ إبراهيم خليل أحمد ) شيئًا من هذا ، وهو كثير لمن أراد أن يتتبعه ويحصيه .
فإن قال قائل : إننا نجد في (القرآن الكريم) آيات تشهد بصدق التوراة -كما هي اليوم- وتشهد بصدق الإنجيل -كما هو اليوم- وتؤكد أن الكتابين لم يصابا بتحريف ، ولا تزييف .
من مثل قول القرآن { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } (1)
وقوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } (2)
قلنا له :
_________
(1) سورة المائدة ، آية 43.
(2) سورة المائدة ، آية 47.

أولًا : نصدر الإجابة بآيات كريمة من القرآن الكريم تؤكد أن أصابع العبث امتدت إلى هذه الكتب ، كقوله تعالى : – { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }{ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (1)
_________
(1) سورة البقرة ، الآيات 75-79.

وقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (1)
_________
(1) سورة المائدة ، الآيات 13-15.

وقوله : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } (1)
وقد روى أحمد من حديث جابر – مرفوعًا- : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا » .
فهذه النصوص الكريمة- قرآنية أو حديثية- تفيد أن القوم قد حرفوا كتبهم ، ونسوا حظًّا من وحي الله وهداه ، . . . وإن هذه الكتب- بعد أن أصابها ما أصابها- لم تعد قادرة على إعطاء الإنسان رشده وهداه وتقواه . . . !
ولقد قدمنا بحثًا دقيقًا لـ (اللواء أحمد عبد الوهاب ) حول (قانونية الأناجيل) أثبت فيه ، بما نقله عن الكُتَّاب المسيحيين وغيرهم ، أن هذه الكتب فيها مئات القضايا التي تختلف مع العقل والنقل والعلم . . !
_________
(1) سورة المائدة ، آية 41.

ثانيًا : أنه ما زال في كتب القوم شيء من الحق ، وإن كان قد بدلت وغيرت ألفاظه ، إما بحكم الترجمة ، أو بدافع الأغراض الشخصية .
وإذا قرأنا الآيتين الثالثة والأربعين ، والسابعة والأربعين من سورة المائدة ، وهما الآيتان اللتان استدل بهما المستدل ، في سياقهما من السورة ، لزال كثير من الغموض ، ولاتضحت الحقيقة جلية سافرة .

يقول الله سبحانه وتعالى : – { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ

بِالْمُؤْمِنِينَ }{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ

اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ }{ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (1)
_________
(1) سورة المائدة ، آية 41-50.

فقد أمر أهل (التوراة) أن يحكموا بما أنزل الله في كتابهم !
وأمر أهل (الإنجيل) أن يحكموا بما أنزل اللّه في كتابهم !
والله أنزل في التوراة وأنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
فإذا لم يحكموه ، فكأنهم لم يحكموا التوراة والإنجيل .
وإذا لم يؤمنوا به ، فكأنهم لم يؤمنوا بما في التوراة والإنجيل .
وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد هذا :
ففي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأةً منهم ورجلًا زنيا ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما » .

وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : « أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق حتى جاء مدراس يهود . فقال : ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ قالوا : نسود وجوههما ويطاف لهما ، قال { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (1) قال : فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم ، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها ، فقال عبد الله بن سلام – وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم- مره فليرفع يده ، فرفعها ، فإذا تحتها آية الرجم ، فقالوا : صدق فيها آية الرجم ، ولكننا نتكاتمه بيننا ، وإن أحبارنا أحدثوا التحميم والتحبية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما فرجما » .
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 93.

وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال : « مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود ، فدعاهم ، فقال : هكذا تجدون حد الزنى في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلًا من علمائهم ، فقال : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتموه ” ، فأمر به فرجم ، فأنزل الله تعالى-
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ } – إلى قوله : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } – إلى : { الظَّالِمُونَ } – إلى : { الْفَاسِقُونَ } (1) قال : ” هي في الكفار كلها » .
_________
(1) سورة المائدة ، الآيات 41-47.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : « رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم ، ورجلًا من اليهود » .
وفي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « أتي بنفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس ، فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلًا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم ، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ، ثم قال : ائتوني بالتوراة فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ، وقال : آمنت بك ، وبمن أنزلك ، ثم قال : ائتوني بأعلمكم ، فأتي بشاب » ثم ذكر قصة الرجم .

وأخرج أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : « زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله ، فقلنا : نبي من أنبيائك . قالوا : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة -منهم- زنيا ، فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا : نحممه ونحبيه ونجلده- والتحبيه : أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما- قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ساكتًا أنشده ، فقال : اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أسرة من الناس ، فأراد رجمه فحال قومه دونه ، وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله

عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما » .
قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } (1)
مما عرضناه وسردناه يتضح لنا أن المقصود تحكيم هذه الكتب ، فيما يتفق مع القرآن لا فيما يناقضه أو يخالفه .

فإن قال قائل من النصارى : إن القرآن الكريم يثني علينا ويعتبرنا أقرب الناس مودة للذين آمنوا ، كما في قوله :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } (2)
قلنا له : إن هذا الثناء إنما هو خاص بالذين آمنوا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن الذين دخلوا في الإسلام من النصارى أكثر من الذين دخلوا فيه من اليهود – .
_________
(1) سورة المائدة ، آية 44.
(2) سورة المائدة ، آية 82.

ودليل ذلك ما جاء في الآيتين الثالثة والثمانين والرابعة والثمانين من سورة المائدة وهما الآيتان اللتان تليا الآية التي استشهد بها ذلك القائل { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }{ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ }{ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } (1) فهو سبحانه وتعالى لم يعد بالثواب في الآخرة إلا هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذين قال فيهم { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }
والشاهدون : هم الذين شهدوا له- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة ، فشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول الله .
_________
(1) سورة المائدة ، آية 83-85.

ولهذا فسر ابن عباس وغيره قوله تعالى : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } قال : مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
وكل من شهد للرسول بالتصديق فهو من الشاهدين ، كما قال الحواريون { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (1)
وإذا كان القرآن الكريم قد أثنى على هؤلاء القساوسة والرهبان ، الذين درسوا الحق ، وأخلصوا في دراستهم ، فأعلنوه واتبعوه .
فلقد نعى على غيرهم ، من الذين اتخذوا الدين تجارة ، وأخذوا يكنزون الذهب والفضة ، وينصبون أنفسهم للناس آلهة ، يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون ، يدخلون الجنة من يشتهون ويحرمون منها من يبغضون .
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 53.

قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ }{ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }{ يَوْمَ

يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } (1)
_________
(1) سورة التوبة ، الآيات 30-35.

الحواريون
يقول السؤال المطروح عليَّ : هل يؤمن المسلمون برسل المسيح الذين اختارهم ، وأوكل إليهم مهمة التبشير لجميع الأمم كما ذُكِر في الإنجيل ؟
ونقول في الإجابة :
يزعم النصارى أن الحواريون رسل من رسل اللَّه ، وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل ، وأن لهم معجزات . . . . !
وكونهم ” رسل الله ” ! فهذا مبني على كون المسيح هو الله ، فإنهم رسل الله!
يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتابه القيم : (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) (1)
” وهذا الأصل باطل ، ولكن في طرق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن فنمنعهم في هذا المقام ، ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله ، وليس لهم على ذلك دليل : فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله ، وإثباتهم أن المسيح هو الله ، إما أن يكون بالعقل أو بالسمع- يعني الدليل النقلي- والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله ، وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل .
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضًا باطل .
وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع .
_________
(1) 1 / 357.

ولكن يقال لهم في هذا المقام : أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورًا ممتنعًا .
فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب .
ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله .
ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله .
فصار ثبوت إلهيته متوقفًا على ثبوت إلهيته .
وثبوت كونهم رسل الله متوقفًا على كونهم رسل الله ، فصار ذلك دورًا ممتنعًا ” .
ثم يقول رحمه الله- مفندًا لمزاعم القوم ؛ إذ يقولون : إن هؤلاء الحواريين جرت على أيديهم معجزات ، فهم لهذا يعتبرون رسلًا !
” وقد يدعون عصمة الحواريين ، وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين . فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق ، وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الميت على يديه ، وهذا إذا كان صحيحًا- مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي- لا يدل على عصمته .

فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان ، وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها ، لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه ، وليس فيهم معصوم ، يجب قبول كل ما يقول ، بل يجوز الغلط على كل واحد منهم ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء عليهم السلام .
ولهذا أوجب الله الإيمان بكل ما أوتيه الأنبياء ، ولم يوجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي ” .
قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } (1)
ثم يقول :
” فإذا كان المسلمون يقولون عن الحواريين إنهم ليسوا بمعصومين ، فإنهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين كأبي بكر وعمر .
وإن كانوا يقولون عن المسيح إنه عبد مخلوق مربوب ليس بإله فإنهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام ” .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 136.

إننا نؤمن أن الحواريين ، هم صحابة المسيح ورسله ، وأنهم بمنزلة رسل موسى ورسل إبراهيم ورسل محمد عليهم السلام ، الذين يوجهونهم برسائلهم إلى الآفاق لنشر الدعوة أو تعليم الدين .
أما النصارى ؛ فإنهم يرون في الحوارين أنهم رسل الله . . . يعنون المسيح !!
ولقد ورد ذكر الحواريين في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1) وقال تعالى : –
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 52.

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ }{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ }{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } (1)
_________
(1) سورة المائدة ، الآيات 111-115.

وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } (1)
فإن قال قائل ، وهذه الآيات التي جاءت في سورة (يس) وتتحدث عن أخبار (رسل المسيح ) إِلى أهل أنطاكية ، ألا يدل ذلك على أنهم رسل الله ؟ نقول : أما الآيات التي وردت في سورة (يس) فهي قوله تعالى : –
_________
(1) سورة الصف ، آية 14.

{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ }{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ }{ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ }{ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }{ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ قَالُوا }{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ }{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ }{ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ }{ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ }{ إِنِّي

إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ }{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ }{ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }{ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ }{ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ }{ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } (1)
يقول ابن تيمية رحمه الله :
” والرسل المذكورون في سورة يس ليسوا هم الحواريين ، ولا كانوا رسلًا للمسيح ، بل كان هذا الإرسال قبل المسيح ، وأهل القرية كذبوا أولئك الرسل فأهلكهم الله ، كما قال تعالى :
{ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ }{ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } (2)
_________
(1) سورة يس ، الآيات 13-32.
(2) سورة يس ، الآيتان 28 ، 29.

والرسل المذكورون في السورة هم ثلاثة ، وكان في القرية رجل آمن بهم ، وهذه -وإن كانت أنطاكية- فكان هذا الإرسال قبل المسيح ، والمسيح عليه السلام ذهب إلى أنطاكية اثنان من أصحابه بعد رفعه إلى السماء ، ولم يعززوا بثالث ، ولا كان حبيب النجار موجودًا إِذ ذاك ، وآمن أهل أنطاكية بالمسيح عليه السلام ، وهي أول مدينة آمنت به ” .
وقبل أن ننهي هذا الفصل من فصول المناظرة ، أحب أن أقلب صفحات أسفار العهد الجديد لأستخرج منها صورة هؤلاء الحواريين الذين يقال عنهم إنهم رسل وإنهم معصومون .
– ” وأما أسماء الاثني عشر رسولًا فهي هذه : الأول : سمعان ؛ الذي يقال له بطرس ، وأندراوس أخوه ، يعقوب بن زبدي ، ويوحنا أخوه ، فيلبس ، وبرثولماوس ، توما ، ومتى العشار ، يعقوب بن حلفي ، ولباوس الملقب تداوس ، سمعان القانوي ، ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه ” (إنجيل متى 10 : 2-4) .
– ” وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان ، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس ” (متى 23 : 16) .

– ” ولما جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جائيًا له ، قائلًا : يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألم شديدًا ، ويقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء ، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه ، فأجاب يسوع وقال : أيها الجيل غير المؤمن الملتوي ، إلى متى أكون معكم . إلى متى أحتملكم قدموه إلي ههنا ، فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي الغلام من تلك الساعة ، ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد ، وقالوا : لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه ؟ فقال لهم يسوع : لعدم إيمانكم ” (إنجيل متى 17 : 14- 20) .
– ” فأجاب بطرس وقال له : وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا ، قال له يسوع : الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات ” ( متى 26 : 33- 34) .
وتؤكد الأناجيل- كما ذكرنا من قبل- أن يهوذا الأسخريوطي واحد من الحواريين الرسل . . . بل إنه كان من المقدمين فيهم لأنه كان أمين المال . . . وهو الذي تآمر على المسيح مع شيوخ اليهود في نظير ثلاثين من الفضة !!!
وهنا سؤال عارض :
– هل كان يهوذا يعرف أو يعتقد أن المسيح الذي باعه بثلاثين من الفضة هو ابن الله كما يزعمون ؟

وهل كان بطرس رئيس التلاميذ ، الذي أنكر المسيح ثلاث مرات حسب روايات الأناجيل وتبرأ منه يعتقد أنه ابن الله كما يدعون ؟
إن كانا يعلمان أو يعتقدان ذلك فكيف أسلمه الأول وأنكره الثاني ؟
وإن لم يكونا يعلمان- مع أن بطرس رئيس التلاميذ- فكيف ألَّهوه بعد ذلك ، وقالوا : المسيح ابن الله ؟
إن الأناجيل تصر على أن يهوذا كان خائنًا .
” حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعي يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء الكهنة . وقال : ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم ، فجعلوا له ثلاثين من الفضة . ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه ” (إنجيل متى 26 : 14- 16) .
وتعطينا الأناجيل- أيضًا- صورة عن ابني زبدي ، فقد أحضرا أمهما لتسأل المسيح أن يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله في ملكوت الله .

” حينئذ تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها وسجدت وطلبت منه شيئًا ، فقال لها : ماذا تريدين ؟ قالت له : قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك . فأجاب يسوع وقال : لستما تعلمان ما تطلبان ، أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا . قالا له : نستطيع . فقال لهما أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان ، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم من أبي . فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الأخوين ” ( متى 20 : 20- 24) .
بل إن جميع التلاميذ كانوا يبحثون عن المنفعة الشخصية ، فها هو ذا بطرس زعيمهم يتحدث بالنيابة عنهم إلى المسيح ، ويقول عنه الإنجيل :
” فأجاب بطرس حينئذ وقال له : ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا ، فقال لهم يسوع : الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تَبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر ” (إنجيل متى 19 : 27-29) .
اثنا عشر كرسيًّا . . . بعدد الرسل الاثني عشر . . . . !

أنسي كتبة الأناجيل . . أن يسقطوا ( يهوذا ) الخائن . . . من حكاية (الكراسي) !
إذًا ( فيهوذا الأسخريوطي ) ما زال محتفظًا بكرسيه . . رغم كل شيء !!

الخمر
بين يدي سؤال عن الخمر -يقول :
الخمر محرم في القرآن الكريم ، ولكنه غير محرم في الإنجيل ، فكيف تفسرون ذلك ؟
وهل هناك آية في القرآن تحرم الخمر ؟
ولقد ذكرنا السؤال بنصه ، وإن كان هناك تعارض بين صدره وعجزه !!
ونقول في الجواب :
إن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في القرآن الكريم ، وقد نزل في ذلك آيات :
قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (1)
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (2)
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (3)
_________
(1) سورة البقرة ، آية 219.
(2) سورة النساء ، آية 43.
(3) سورة المائدة ، الآيتان 90 ، 91.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال : ” اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فإنها تذهب بالمال والعقل فنزلت هذه الآية يسألونك عن الخمر والميسر فدعى عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فنزلت الآية في سورة النساء يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا لا يقربن الصلاة سكران . فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فنزلت الآية في سورة المائدة ، فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون قال عمر : انتهينا ، انتهينا ” .

روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ” اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، كان رجل ممن كان قبلكم متعبد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها ، فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه . حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمر كأسًا ، أو تقتل هذا الغلام ، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسًا ، فسقته ، قال : زيدوني ، فزادوه ، فلم يبرح حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر ، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ” .
والخمر ، سميت بهذا الاسم لأنها تستر العقل وتغطيه ، كما ذكره الزجاج ، وقال ابن الأنباري : سميت خمرة لأنها تخامر العقل ؛ أي : تخالطه ، يقال : خامره الداء إذا خالطه .
ولا شك أن العقل أثمن وأغلى شيء في الإنسان ، فإذا فقد الإنسان العقل فماذا يكون قد بقي له ؟
يقول أحد الشعراء المخمورين :

لا يلد السكر حتى … يكل السكران نعله
ويرى القطة فيلًا … ويظن الفيل نمله

قال القرطبي :

(إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته ، وربما يمسح وجهه حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ، ويقول : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين . ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله كما أكرمتني ” .
هذا عرض سريع وموجز لما جاء في القرآن الكريم والسنَّة المطهرة حول تحريم الخمر . . بقي أن نتوقف عند النصوص الكتابِيَّة لننظر ماذا جاء فيها عن الخمر ، وتحريمها :
” الخمر مستهزئة ، المسكر عجاج ، ومن يترنح بهما فليس بحكيم ” (سفر الأمثال 20 : 1) .
” لمن الويل ، لمن الشقاوة ، لمن المخاصمات ، لمن الكرب ، لمن الجروح بلا سبب ، لمن ازمهرار العينَيْن ، للذين يدمنون الخمر ، الذين يدخلون في طلب الشراب المموج . لا تنظر إلى الخمر- إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة . في الآخر تلسع كالحية ، وتلدغ كالأفعوان . عيناك تنظران الأجنبيات ، وقلبك ينطق بأمور ملتوية ، وتكون كمضطجع في قلب البحر ، أو كمضطجع إلى رأس سارية . يقول : ضربوني ولم أتوجع ، لقد لكأوني ولم أعرف . متى أستيقظ أعود أطلبها بعد ” (سفر الأمثال 33 : 29 -35) .

” ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزج السكر ” (سفر أشعياء 5 : 22) .
” ولكن هؤلاء أيضًا ضلوا بالخمر- وتاهوا بالمسكر ، الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر ، تاها من السكر ، ضلا في الرؤيا ، قلقا في القضاء ، فإن جميع الموائد امتلأت قيئًا وقذرًا ” (سفر أشعياء 28 : 7- 8) .
” الزنى والخمر والسلافة تخلب القلب ” (سفر هوشع 4 : 11) .
ولم يكن يسمح للنذير بأن يشرب منه مدة نذره :
” وكلَّم الرب موسى قائلًا : كلِّم بني إسرائيل وقل لهم : إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب فعن الخمر والميسر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا . كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم حتى القشر ” (سفر العدد 6 : 1- 4) .
ولم يكن يسمح للكاهن بأن يشرب منه عند دخوله لخدمة المقدس .
” وكلم الرب هارون قائلًا خمرًا ومسكرًا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا فرضًا دهريًّا في أجيالكم ، وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر ” (سفر اللاويين 10 : 8- 10) .

وقد أعلن الكتاب المقدس أن الفقر في شرب الخمر .
” محب الخمر والدهن لا يستغني ” (سفر الأمثال 21 : 17) .
ونهى عن مجالسة من يشربون الخمر :
” لا تكن بين شريبي الخمر ، بين المتلفين أجسادهم ؛ لأن السكير والمسرف يفتقران ” (سفر الأمثال 23 : 20- 21) .
وقد نهى الكتاب عن السكر بالخمر وبيَّن أن السكر خطيئة :
” فإن حنة كانت تتكلم في قلبها وشفتاها فقط تتحركان وصوتها لم يسمع .
إن عالي ظنها سكرى . فقال لها عالي : حتى متى تسكرين ؟ انزعي خمرك عنك . فأجابت حنة وقالت : لا يا سيدي إني امرأة حزينة الروح ولم أشرب خمرًا ولا مسكرًا بل أسكب نفسي أمام الرب لا تحسب أمتك ابنة بليعال ؛ لأني من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت إلى الآن ” (سفر صموئيل الأول 1 : 13-16) .
وفيه تهديد وتنديد بشارب الخمر :

” ويل للمبكرين صباحًا يتبعون السكر ، للمتأخرين في العتمة تلهيهم الخمر . وصار العود والرباب والدف والناي والخمر ولائهم وإلى فعل الرب لا ينظرون ، وعمل يديه لا يرون ، لذلك سبي شعبي لعدم المعرفة ، وتصير شرفاؤه رجال جوع ، وعامته يابسين من العطش ، لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها ، ويذل الإنسان ويحط الرجل وعيون المستعلين توضع ” (سفر أشعياء 5 : 11- 1) .
و(ذا تركنا (العهد القديم) ونصوصه . . .
وولينا وجوهنا شطر (العهد الجديد) ونصوصه . . .
وجدنا أن الكتابَيْن تطابقا وتوافقا على تحريم الخمر وذمها .
ففي رسالة بولس الأول إلى أهل كورنثوس ، يقول :
” وأما الآن فكتبت إليكم إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا ” (11 : 5) .
وفي رسالة كورنثوس الأولى -أيضًا- (الإصحاح 6 ، العدد 9 ، 10) :
” لا تضلوا ، لا زناة ، ولا عبدة أوثان ، ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله ” .

وفي رسالة بولس إلى أهل غلاطية (الإصحاح الخامس ، العدد 19 وما بعده) :
” وأعمال الجسد ظاهرة التي هي : زنى عهارة نجاسة دعارة عبادة الأوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب شقاق بدعة حسد قتل سكر بطر وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضًا إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله ” .
وفي رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس (الإصحاح 5 : 18) :
” ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح ” .
وفي رسالة بطرس الأول (الإصحاح 4 ، العدد 3) :
” لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في الدعارة والشهوات وإدمان الخمر والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة ” .
هذه هي الخمر في (العهد القديم) .
وهذه هي الخمر في (العهد الجديد) .
ولكننا نصاب بذهول لا ينتهي ، حينما نقرأ الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا (العدد 1 وما بعده) .
إن هذا الإنجيل يقدم لنا باكورة معجزات المسيح ، فإذا بها تحويل الماء إلى خمر !!
يقول الإنجيل :

” وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك . ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له : ليس لهم خمر . قال لها يسوع ما لي ولك يا امرأة ، لم تأت ساعتي بعد . قالت أمه للخدام : مهما قال لكم فافعلوه . وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة قال لهم يسوع : املأوا الأجران ماء فملأوها إلى فوق ، ثم قال لهم : استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ . فقدموا . فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هي . لكن الخدام كانوا قد استقوا الماء علموا ، دعا رئيس المتكأ العريس وقال له : كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا ، ومتى سكروا فحينئذ الدون . أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن . هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه ” .
بل إن إنجيل يوحنا يفاجئنا ، ويا هول ما يفاجئنا به ، يفاجئنا بالمسيح في حالة سكر شديد . . وقد تعرى من ملابسه ولنترك للإنجيل يحدثنا حديثه :

” قام عن العشاء ، وخلع ثيابه ، وأخذ منشفة واتزر بها . ثم صب الماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان يتزر بها ” (إِنجيل يوحنا 13 : 4-5) .
وهذا النص تحوطه مجموعة ضخمة من علامات الاستفهام . . والتعجب . . ولكننا لن نناقش هذا النص . . وإنما سنكتفي بعرضه . . بعيدًا عن أي تعقيب أو تعليق . . غير أننا سنترك أحد المعلقين المسيحيين ( فندر – صاحب كتاب ميزان الحق) (1) ليقول :
” هذا يوهم أن عيسى عليه السلام كان قد سرت فيه الخمرة حتى لم يكن يدري ما يفعل ، فإن غسل الأقدام لا يوجب التجرد من الثياب ” .
وينتهي كلام المتحدث الرسمي . . .
أما أنا فأقول ، إنه كلام على طريقة : ” يقول المريب خذني ” .
ثم أختم هذا الحديث عن الخمر بنصين من نصوص أسفار (العهد الجديد) . . . وما أكثر نصوص أسفار العهد الجديد . يقول النص الأول :
” لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فتقولون به شيطان . جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر ” (إنجيل لوقا 7 : 23-24) .
ويقول النص الثاني ، وهو متمم لهذا النص ومكمل له :
_________
(1) راجع إظهار الحق لرحمة الله الهندي 2 / 573.

” وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه فدخل بيت الفريسي واتكأ وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك تكلم قي نفسه قائلًا : لو كان هذا نبيًّا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي أنها خاطئة ” (إنجيل لوقا 7 : 36-39) .
ثم يستمر النص فيقول :
” ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان : أتنظر هذه المرأة ؟ إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط . وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتها بشعر رأسها . قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي من أجل ذلك ، أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا ” (إنجيل يوحنا 7 : 44- 47) .
ثم يمضي (العهد الجديد) في عرض نصوصه (المقدسة) !!
ونتوقف لننتقل بالحديث إلى موضوع آخر!

الخنزير
يقول سؤال عن الخنزير :
لماذا يحرم القرآن لحم الخنزير ؟ وهل هناك آية تحرم ذلك ؟
ونقول في الجواب :
إن في القرآن الكريم لآيات تحرم الخنزير تحريمًا قاطعًا .

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) وقال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } (2) وقال تعالى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) وقال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
_________
(1) سورة البقرة ، الآيتان 172 ، 173
(2) سورة المائدة ، آية 3
(3) سورة الأنعام ، آية 145

بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) ويتردد هنا تساؤل عن السر في تحريم الخنزير ، فكتب البعض -مشكورين- مقالات قيمة ، ودراسات ممتعة ، عن أسباب التحريم من وجهة النظر الصحية والطبية ، فأكدوا أن لحم الخنزير مرتع للميكروبات والجراثيم الفتاكة ، كالدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة .
وقد عارض آخرون بأنه يمكن استخدام حرارة شديدة عند إنضاج لحمه لقتل هذه الدودة والقضاء عليها .
ورد هؤلاء الباحثون على هؤلاء المعارضين ، إننا اكتشفنا هذه الديدان بعد أحقاب متطاولة من تحريم الله للخنزير . . . فمن يدرينا بعد أحقاب أخرى ماذا نكتشف أيضا!
إن الله- جلت مشيئته وحكمته- وفر على الإنسان الجهد المضني ، وهداه إلى ما ينفعه في دينه ودنياه . . . وحذره مما يضره في دينه ودنياه!
ولكن . . . لا ينبغي أن يدفعنا البحث عن علة التحريم . . إلى تجاهل أمر هام . . . وهام جدًّا . . . ذلك هو : أن الحلال حلال لله ، وأن الحرام حرامه ، . . . وأن النص الصحيح له هيمنته على كل اجتهاد وكل بحث وكل تعليل .
_________
(1) سورة النحل ، الآيتان 114 ، 115

إن خطيئة آدم الأولى التي كانت سببًا في خروجه من الجنة . . . إنما هي أكله من شجرة محرمة . . . ما كان يعرف العلة في تحريمها . . . لم يقف عند نهي الله وتحذيره .
إن ما حدث من آدم ، وما حدث له . . . ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن نناقش قضايا الحلال والحرام !! حتى لا تختلط في نظرنا السبل ، أو تزل بنا الأقدام .
و(القرآن الكريم) ليس هو الكتاب الوحيد الذي يؤكد النهي عن لحم الخنزير . . ويشدد في حرمته . . . وإنما هذه نصوص الأسفار قديمها وجديدها ، تؤكد هذا وتقرره .
الخنزير محرم ؛ لأنه لا يجتر :

” وكلم الرب موسى وهارون قائلًا لهما : كلِّما بني إسرائيل قائلين : هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض . كل ما شق ظلفًا وقسمه ظلفين ، ويجتر من البهائم فإياه تأكلون إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف ، الجمل لأنه مجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم . والوبر لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم . والأرنب لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفًا فهو نجس لكم . والخنزير . لأنه يشق ظلفًا ويقسمه ظلفين لكنه لا يجتر فهو نجس لكم . من لحمها لا تأكلوا ، وجثثها لا تلمسوا إنها نجسة لكم ” (سفر اللاويين 11 : 1-8) .
” لا تأكل رجسًا ما . هذه البهائم التي تأكلونها . البقر والضأن والمعز والإبل والظبي واليحمور والوعل والرئم والتيتل والمهاة . وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفًا وتقسمه ظلفين وتجتر فإياها تأكلون . إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر وما يشق الظلف المنقسم . الجمل والأرنب والوبر لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفًا فهي نجسة لكم . والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم . فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا ” (سفر التثنية 14 : 3-8) .
يقول قاموس الكتاب المقدس تعليقًا على هذا النص (1) :
_________
(1) ص305.

” وذلك لأنه قذر ولا يجتر طعامه ويولد لحمه بعض الأمراض إذا لم ينضج عند طبخه . وكان محرمًا على العرب تربيته . وقد حرم القرآن أكله كما حرمته التوراة .
وقد حسبه الفينيقيون والأثيوبيون والمصريون نجسًا مع أنهم في مصر كانوا يقدمون خنزيرًا ذبيحةً في العيد السنوي لإله القمر ولأوزوريس باخوس . ومع ذلك فإنه كان يتحتم على من يلمس خنزيرًا ولو عرضًا أن يغتسل ولم يكن يسمح لراعي الخنزير أن يدخل الهيكل ولم يكن يتزوج إلا من بنات الرعاة مثله ؛ لأن أحدًا لا يرضى أن يزوج ابنته من راعي الخنازير ” (1) .
والخنزير قذر :
” خزامة ذهب في قنطيسة خنزيرة ، المرأة الجميلة العديمة العقل ” (سفر الأمثال 11 : 22) .
وإذا تركنا أسفار (العهد القديم) . .
وانتقلنا إلى أسفار (العهد الجديد) . .
فإننا نجدها تقول :
” لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير ” (إنجيل متى 67) .
” قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه ، وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة ” (رسالة بطرس الرسول الثانية 2 : 22) .
وتقرر أسفار العهد الجديد أن رعي الخنازير أحط المهن وأدناها لا يقربها إلا الفقراء المعدمون .
_________
(1) راجع هيرودتس (جـ 2 ، ص 47).

” وقال إنسان كان له ابنان ، فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال . فقسم لهما معيشته . وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة ، وهناك بذر ماله بعيش مسرف . فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازيره ” (إنجيل لوقا 15 : 11-15) .
” وكان هناك عند الجبال قطيع كبير من الخنازير يرعى . فطلب إِليه كل الشياطين قائلين أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها . فأذن لهم يسوع للوقت فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير ” (إنجيل مرقس 5 : 11-13) .
على أن هناك حقيقة ينبغي أن تكون نصب أعيننا ، هي أن المسيح جاء مقررًا للتوراة ومؤكدًا لما جاء فيها :
لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل . فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ” (إنجيل متى 5 : 17-18) .
هكذا تكلم المسيح . . . فكيف تكلم بطرس . . . ! ؟
بطرس فتح الباب على مصراعيه ، فأحل كل حرام ، ونقض الناموس .

وقد سبق أن عرضنا رأي النصارى في المحرمات عند الحديث عن النسخ -ونضيف هنا- حديث ملاءة بطرس :
” ثم في الغد فيما هم يسافرون ويقتربون إلى المدينة صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة . فجاع كثيرًا واشتهى أن يأكل وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة ، فرأى السماء مفتوحة وإناء نازلا عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض ، وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء ، وصار إليه صوت قم يا بطرس اذبح وكل ، فقال بطرس : كلا يا رب لأني لم آكل شيئًا دنسًا أو نجسًا . فصار إليه أيضًا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت . وكان هذا ثلاث مرات ثم ارتفع الإناء أيضًا إلى السماء ” (أعمال الرسل 10 : 9- 16) .
هكذا . . هكذا . . كل دواب الأرض . . حتى الوحوش والزحافات والخنازير . . . لم يعد شيء حرامًا . . . !
ولكنه ( بطرس ) وبطرس من حقه أن يحل ما يشاء ، وأن يحرم ما يشاء . . . . فإرادة الله تابعة لإرادته- ألم يقل الله له :

” أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي ، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماء ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات ، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات ” (إنجيل متى 16 : 18- 19) .

الروح القدوس
في الأسئلة المقدمة سؤال عن (الروح القدس) وما جاء في القرآن الكريم والتأييد ، ويراد بها الملك .
والمضاف إلى الله تعالى نوعان :
فإن المضاف : إما أن يكون صفة لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة والكلام والحياة . وإما أن يكون عينًا قائمة بنفسها .
فالأول : إضافة صفة ، كقوله : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } (1)
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (2)
وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } (3)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، حديث الاستخارة :
” إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم . . الحديث ” (4) .
والثاني : إضافة عين ، كقوله تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } (5)
وقوله : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } (6)
وقوله : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } (7)
فالمضاف في النوع الأول : صفة الله قائمة به ليست مخلوقًا له بائنًا عنه .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 255.
(2) سورة الذاريات ، آية 58.
(3) سورة فصلت ، آية 15.
(4) حديث الاستخارة : « إذا هم أحدكم بالأمر . . » أخرجه البخاري في التهجد 25 ، وأصحاب السنن ، وأحمد في المسند 3 / 344.
(5) سورة الحج ، آية 26.
(6) سورة الشمس ، آية 13.
(7) سورة الإنسان ، آية 6.

والمضاف في النوع الثاني : مملوك لله مخلوق له بائن عنه ، لكنه مفضل مشرف لما خصه الله به من الصفات التي اقتضت إضافته إلى الله تبارك وتعالى .
كما خص ناقة صالح عليه السلام من بين النوق . وكما خص بيته بمكة من بين البيوت ، وكما خص عباده الصالحين من بين الخلق .
ومن هذا الباب قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } (1)
وهذا الروح وصفه الله بأنه تمثل لها بشرًا سويًّا ، وأنها استعاذت بالله منه إن كان تقيًّا ، وإنه قال لها { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ }
وهذا كله يدل على أنها عين قائمة بذاتها .
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنه نفخ في مريم من روحه ، قال تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } (2)
{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } (3)
كما ذكر الله تعالى تأييده لعيسى عليه السلام بروح القدس في عدة مواضع :
_________
(1) سورة مريم ، آية 17.
(2) سورة الأنبياء ، آية 91.
(3) سورة التحريم ، آية 12.

فقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } (1)
وقال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } (2)
وقال تعالى : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي } (3)
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال ذلك عن عيسى عليه السلام ، فلقد قاله عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن القرآن الذي أنزل عليه .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 87.
(2) سورة البقرة ، آية 253.
(3) سورة المائدة ، آية 110.

قال تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (1)
وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (2)
وقال تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (3)
فروح القدس الذي نزل بالقرآن من الله ، هو الروح أمين ، وهو جبريل عليه السلام .
بقي أن نقول : إن قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } (4) هو نظير قوله تعالى عن آدم عليه السلام : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (5)
وقد شبه الله المسيح بآدم في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (6)
أضغاث أحلام :
_________
(1) سورة النحل ، الآيتان 100 ، 101.
(2) سورة الشعراء ، الآيات 192-194.
(3) سورة البقرة ، آية 97.
(4) سورة الأنبياء ، آية 91.
(5) سورة الحجر ، آية 29.
(6) سورة آل عمران ، آية 59.

هذا ما جاء في القرآن الكريم (ومفرداته) عن الروح القدس . . . !
أما ما جاء في (الكتاب المقدس) عن هذه المفردة ذاتها . . . ! فإن بولس يقرر كيفية تدوين التوراة والإنجيل إذ يقول : ” كل الكتاب هو موحى به من الله ” (الرسالة الثانية إلى تيموثاوس ، 3 : 16) ، وعندما نتتبع كيفية هذا الإيحاء نجده -عنده- وقوع الإنسان في غيبوبة (فيقرر لوقا في سفر ” أعمال الرسل ” وقوع بولس في غيبولة قائلًا) : ” وحدث لي بعد ما رجعت إلى أورشليم وكنت أصلي في الهيكل أني حصلت في غيبوبة فرأيته قائلًا . . . . اذهب فإني أرسلك إلى الأمم بعيدا ” (أعمال الرسل 17 : 22- 21) .
وشق بولس طريقه بإنجيل يغاير إنجيل المسيح قائلًا : ” صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم ، ولكن بالانفراد على المعتبرين ” (غلاطية 2 : 2) .

ويستهين بتلاميذ المسيح قائلًا : ” وأما المعتبرون أنهم بشيء مهما كانوا لا فرق عندي الله لا يأخذ بوجه إنسان . فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا عليَّ بشيء . بل بالعكس إذ رأوا أني اؤتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان . فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل فيَّ أيضًا للأمم . فإذا علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطوني ، وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هم فللختان (غلاطية 6 : 2-10) .
وهكذا سلخ بولس رسالة المسيح من أصالتها المؤسسة على التوراة والمتممة لها كما قال السيد المسيح : ” ما جئت لأنقض بل لأكمل ” (متى 17 : 5) إلى نصرانية تستمد أصولها من الفلسفات الإغريقية .
” والأعجب من ذلك أن بطرس يقرر حقيقة تدوين الأسفار المقدسة بقوله : ” لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ” (رسالة بطرس الثانية 1 : 21) .
وبالبحث لاستجلاء كيفية تلقي بطرس للوحي ، يقول لوقا عن بطرس :
” صعد بطرس إلى السطح ليصلي نحو الساعة السادسة فجاع كثيرًا واشتهى أن يأكل ، وبينما هم يهيئون له وقعت عليه غيبة ” (أعمال الرسل 10 : 9 ، 10) .

فماذا نجم عن هذه الغيبوبة : (يقرر لوقا قائلًا : ” وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما أنه دنس أو نجس ” (أعمال الرسل 10 : 28) .
ومن العجيب أن بطرس لما رأى إيمان الأمم بالمسيح نبيًّا رسولًا ، وحلول موهبة الروح القدس عليهم ” أمر أن يعتمدوا باسم الرب ” (أعمال الرسل 10 : 48)
وهذا فيلبس واحد من التلاميذ كان يعمد باسم الرب : ” ولكن لما صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم يسوع المسيح اعتمدوا ” (أعمال الرسل 8 : 12) .
لقد كانت الدعوة : التبشير بالأمور المختصة بملكوت الله وهي في الحقيقة التبشير بالإسلام دين الله الذي ارتضاه الله للإنسانية كافة .
من هنا نرى التناقض البارز في وجهة نظر بولس الذي قال : ” ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا ” (1 كو 1 : 23) فمتى كان المسيح مصلوبًا ؟ وهذا ما سندحضه بالحجة البالغة .
ولنترك بولس وبطرس في تناقضاتهما ونتساءل ما هي الحقيقة القانونية للأناجيل . أهو موحى به من الله ؟ أم هو من إعداد تلاميذ المسيح ؟ يجيب عن هذا التساؤل لوقا قائلًا :

” إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا منذ البدء كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّامًا للكلمة ، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به ” ( لوقا 1 : 1- 4) ويقر يوحنا قائلًا : ” وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب ” ( يوحنا 30 : 20)
فالأناجيل تؤكد نجاة السيد المسيح من الصلب فالموت . وهنا نقف هنيهة لنتساءل : ألا يمكن اعتبار قول بولس ” ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا ” واحدةً من (غيبوبياته) .
يقول يوحنا في إنجيله : ” فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري . قال لهم يسوع أنا هو . وكان يهوذا مسلّمه أيضًا واقفًا معهم . فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ” (18 : 4- 6) .

وهنا نتساءل في تعقل وتدبر : ما الذي أفزعهم ، إذ رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض وهم مسلحون وهو أعزل ؟ لا بد أن تكون ظاهرة كونية قذفت في قلوبهم الرعب . فلو أضفنا قرينة واردة في إنجيل لوقا بشأن مولد المسيح قائلة : ” وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم . وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا . فقال لهم الملاك : لا تخافوا ، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب ، إنه وُلِد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب ” (إنجيل لوقا 8 : 2- 11) .
فلنأخذ القرينة الواردة في العدد التاسع من الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا التي تقول :

” وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيما ” ولنضعها بعد قول السيد المسيح : ” إني أنا هو ” من العدد السادس من الإصحاح الثامن عشر من إنجيل يوحنا ولنكتب النص بعد إضافة المحذوف : ” فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري قال لهم يسوع أنا هو . وكان يهوذا مسلّمه أيضًا واقفًا معهم فلما قال لهم إني أنا هو إذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض ” (إنجيل يوحنا 4 : 18- 6) و (إنجيل لوقا 9 : 2) .
في هذه اللحظات اقتاده الروح القدس إلى مكان آمن كما سبق أن اقتاده في البرية حسب رواية لوقا قائلًا : ” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس ، وكان يقتاد بالروح فيِ البرية ” (إنجيل لوقا 4 : 1) .
وإليكم الأدلة الدامغة على نجاة السيد المسيح فيروي لوقا هذيان المقبوض عليه :

” ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة وأصعدوه إِلى مجمعهم قائلين إن كنت أنت المسيح فقل لنا . فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون ، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني . منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله ” ( لوقا 66 : 22- 69) .
ودليل آخر صرخات المصلوب حسب رواية متى :
” ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا : إيلي إيلي لما شبقتني ؟ أي إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ ” ( متى 46 : 27) .
بينما السيد المسيح كان مطمئنًا إلى عون الله إذ قال :
” والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ” (إنجيل يوحنا 29 : 8) .
برهان آخر حيث تنبأ السيد المسيح عن تخلي تلاميذه عنه وهروبهم عند الشدة :
” هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته . وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي ” (إنجيل يوحنا 16 : 32) .
ويروي متى حادثة هروب التلاميذ قائلًا :
” حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا ” ( متى 56 : 26) .
هل لاحظتم في رواية يوحنا ما قاله ؟
” فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه ” (إنجيل يوحنا 4 : 18) .
ا- لقد أعلمه الله بنوايا مسلّمه حيث قال :

” إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه . ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلّم ابن الإنسان كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد ، فأجاب وقال : هل أنا هو يا سيدي قال له أنت قلت ” ( متى 25 : 26) .

2- تحدى اليهود الذين تآمروا على قتله قائلا :
(أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه فقال لهم يسوع أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني . ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ، (إنجيل يوحنا 7 : 32- 34) .
وقال السيد المسيح مؤكدًا قوله قائلًا :
” قال لهم يسوع أيضًا أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم . حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا . فقال اليهود ألعلّه يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ” (إنجيل يوحنا 8 : 31-32)
ويؤكد هذا القول لتلاميذه قائلًا :
” يا أولادي أنا معكم زمانًا قليلًا بعد . ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ” (إنجيل يوحنا 33 : 13) .

هذا هو السيد المسيح الذي رفعه الله إليه ، وحمدًا لله أنه في قرآنه الكريم حسم هذه القضية بقوله سبحانه وتعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا }{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (1)
إذن فقضية الصلب قضية باطلة ، وكل ما بني على باطل فهو باطل .
فماذا يقول ( بولس ) الذي يكرز بالمسيح مصلوبا ؟
ما أصدق قول تولستوي الذي أنكر تأليه السيد المسيح ، والذي رأى أن بولس لم يفهم تعاليم السيد المسيح بل طمسها ، وانحرف بها . فبعد أن كانت امتدادًا لشريعة الله التي أنزلها الله على عبده ونبيه موسى . أصبحت تعاليم هيلينية ممتدة في عمق فلسفة الإغريق (وقرر أن الأقوال الواردة في العهد القديم عن السيد المسيح لا تدل على أنه هو الله ولا هو ابن الله حقيقة . كما أعلن تولستوي بجرأة أن كتاب العهد الجديد قد حرّف وعراه التغيير والتبديل .
_________
(1) سورة النساء ، آية 157 ، 158.

بقي أن نطرح هذا السؤال الأخير :

من هو الروح القدس ؟

ونجيب عليه من النصوص الكتابِيَّة :
يقول لوقا في إنجيله بشأن مريم العذراء :
” وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف . واسم العذراء مريم . فدخل إليها الملاك وقال : سلام لك أيتها المنعم عليها . الرب معك . مباركة أنت في النساء ” ( لوقا 1 : 26- 28) .
ويقول لوقا في إنجيله بشأن يحيى بن زكريا :
” فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا . ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته لأنه يكون عظيمًا أمام الرب وخمرًا ومسكرًا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ” ( لوقا 1 : 13- 15) .
ويقول لوقا في إنجيله بشأن حمل السيدة العذراء :
” فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا فأجاب وقال لها : الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك . . . ” ( لوقا 1 : 34 ، 35) .
ويقول لوقا في إنجيله بشأن العمل والولادة بإرادة الله وأمره فلا يستحيل على الله شيء :

” وهو ذا أليصابات نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها ، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا . لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله ” ( لوقا 1 : 36 ، 37) .
وفي العهد القديم
ارميا يمتلئ بالروح القدس في بطن أمه :
” فكانت كلمة الرب إليّ قائلًا : قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك . جعلتك نبيًّا للشعوب ” ( ارميا 1 : 4) قدستك أي تمتلئ بالروح القدس .
الروح القدس يهدي بني إسرائيل إلى أرض كنعان :
” ها أنا أرسل ملاكًا أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه . لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه ” (خروج 23 : 20 ، 21) .
في هذا المعنى (لا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه) قال السيد المسيح :
(1) ” أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس . وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس . ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي ” (إنجيل متى 12 : 31 ، 32)
(2) ويروي لوقا مقالة السيد المسح قائلًا :

” كل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من جدّف على الروح القدس فلا يغفر له ومتى قدّموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون . لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تَقولوه ” ( لوقا 10 : 12- 12) .
(3) ويروي متى في إنجيله مقالة السيد المسيح عن الروح القدس بأنه روح منبثق من الله :
” فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم) (متى 10 : 19 ، 20) .
والسيد المسيح عليه السلام كان موصول الصلة بالسماء من المهد إلى صعوده إلى السماء :
(1) بشارة الروح القدس بمولده :
” قال لهم الملاك : لا تخافوا ، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب ، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” ( لوقا 2 : 10 ، 11) .
(2) نزول الروح القدس عليه عند المعمودية :
” ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا . وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة ” ( لوقا 3 : 21 ، 22) .
(3) اقتياد الروح القدس له في البرية أثناء تجربة إبليس له :

” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس ، وكان يقتاد بالروح في البرية ” ( لوقا 4 : 1) .
(4) الروح القدس يقوي المسيح أثناء الصلاة في بستان جشيماني :
” وجثا على ركبتيه وصلى قائلًا يا أبتاه إن شئت أن تعبر عني هذه الكأس . ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك وظهر له ملاك من السماء يقويه ” ( لوقا 22 : 41- 43) .
والسيد المسيح يعد تلاميذه بحلول الروح القدس عليهم يوم الخمسين :
” لكنكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض ” (أعمال الرسل 1 : 8) .
والروح القدس يسكن قلب الإنسان المؤمن الورع مما يزيده طمأنينةً وسلامًا .
فهذا داود نبي الله يتضرع إلى الله أن يثبت الروح القدس في قلبه قائلًا :
” قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي . لا تطرحني من قدّام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني ” (مزمور 51 : 10 ، 11) .
وهذا شاول يتحول إلى إنسان آخر بمجرد مسحه وحلول الروح القدس عليه :
” فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصبَّ على رأسه وقبّله وقال أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا ” ( صموئيل الأول 10 : 1) .

” وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر . . . فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم ” ( صموئيل الأول 10 : 9 ، 10) .
شاول ينصرف عنه الروح القدس لأنه عصا ربه :
” وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح رديء من قبل الرب ” ( صموئيل الأول 16 : 14) .
من هذا يتبين أن السيد المسيح إنسان وعبد من عباد الله ، وأن الروح القدس ملك من الملائكة وأن الله- جلّت قدرته- ليس كمثله شيء .
وصدق الله العظيم إذ يقول :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (1)
_________
(1) سورة الشورى ، آية 51.

كلمة الله


فإن قال قائل : لماذا أطلق القرآن الكريم على عيسى عليه السلام ، كلمة الله ؟
قلنا له : المقصود بكلمة الله كلمة (كن) التي يخلق الله بها الأشياء ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (1)
وكلمات الله لا نهاية لها ، كما قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } (2)
وسمي المسيح كلمة الله ، لأن الله كوَّنه (بكن) .
قال تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ }{ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (3)
وقال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (4)
_________
(1) سورة يس ، آية 82.
(2) سورة الكهف ، آية 109.
(3) سورة مريم ، الآيتان 34 ، 35.
(4) سورة آل عمران ، آية 47.

وقال أيضًا : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (1)
وإنما خص المسيح عليه السلام بتسميته (كلمة الله) دون سائر البشر ، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات ، فالفرد من ذرية آدم خلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم نفخ فيه الروح ، وخلق من ماء الأبوين : الأب والأم .
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء الرجل ، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به ، وقال الله له كن فكان ، ولهذا شبهه بآدم في قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (2)
وتقول أسفار العهدين :
هذا ما تحدث به القرآن الكريم :
أما ما تحدثت به الأناجيل بل أسفار العهدين القديم والجديد ، فقد جاء في إنجيل يوحنا : ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله ” ( يوحنا 1 : 1) .
وجاء في الرسالة إِلى العبرانيين : ” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر ” (العبرانيون 3 : 11) .
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 59.
(2) سورة آل عمران ، آية 59.

وجاء في رسالة بطرس الثانية : ” السماوات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء ” ( بطرس الثانية 3 : 5) .
وجاء في سفر المزامير : ” بكلمة الله صنعت السماوات والأرض وبنسمة فيه كل جنودها ” (6 : 33) .
تكررت (الكلمة) في مواضع أربعة واضحة جلية في النصوص سالفة الذكر .
ونحن نعلم أن العهد الجديد كتب باللغة اليونانية ومن ثم فإن الكلمة اليونانية المرادفة هي (لوجوس) وهذه الكلمة لها أربع مرادفات هي : الكلمة ، الأمر ، العهد ، الخبر . وهذه المرادفات تعني قدرة الله في أنه إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون .
مناقشة ما جاء في إنجيل يوحنا
هذا النص هو إحدى الدعائم التي قامت عليهما عقيدة التجسيد عند النصارى ، وهو الركيزة الأولى التي استند إليها دعاة التجسيد الأولون في تشكيل العقيدة النصرانية في إعطائها الصورة التي طلعت بها على الناس .

لقد فهم دعاة النصرانية ومبشروها من هذا النص أن الكلمة هي الله . وأن الله هو الكلمة ، وأن الكلمة قد خلق به كل شيء . وأنه صار جسدًا وحلّ بيننا في شخص المسيح الذي رآه الناس في عصره الذي ظهر فيه . في أرض اليهودية . وقام بدعوته في مواجهة اليهود ، وطلع عليهم بمعجزاته التي اختلف الناس من أجلها في تصور حقيقته!
ومفهوم هذا النص على هذا الوجه لا يسلّم به إلا مع كثير من التجوز الذي يخرج المنطق ويلغي العقل فهناك مثلًا : عبارة (في البدء كان الكلمة) .
ونتساءل أي بدء تعني ؟ ما حده الزمني ؟ وإذا كان له حد زمني فهل يكون له متعلق بالله ؟ وهل ذلك مما يليق بكمال الله الذي لا يحصره شيء . . زمانًا . . . ومكانا ؟ فالله سبحانه أول بلا ابتداء .
ثم العبارة (والكلمة كان عند الله) .
فماذا تعني العندية هنا ، وكيف يتفق أن تكون (الكلمة) بدءً بمعنى الأولوية المطلقة لم توصف بأنها كانت عند الله .
ثم أخيرًا العبارة (وكان الكلمة الله) .
كيف ترتفع العندية ، ويكون الكلمة الله ، لا عند الله هذا التناقض هو ما يعطيه هذا النص كما تنطق بذلك ألفاظه وعباراته .
فهل يرجع ذلك إلى التسامح في الترجمة وعدم دقتها ؟
قد يكون .

عملية تصويب بإضافة المحذوف لتصويب المعاني
ولا تساق العبارة (في البدء كان الكلمة) وذلك في مفهوم الكلمة (الأمر) .
فالأمر الإلهي كن فيكون تقرر (والكلمة كان عند الله) أي الأمر الإلهي كان أزلًا وأبدًا موصوفًا بها فهي من صفات الله الأزلية .
(وكان الكلمة الله) فيه حذف المضاف -وهو سائغ شائع- أي (وكان رب الكلمة الله) فهو صاحب الأمر والنهي على الإطلاق .
ثم قول يوحنا بعد ذلك (والكلمة صار جسدا) ( يوحنا 1 : 14) فيه حذف المضاف أيضًا أي (وأثر الكلمة صار جسدا) مثال ذلك جاء في سفر التكوين بشأن الخلق :
” قال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وكان كذلك ” . (تكوين 1 : 24) ، ” وقال الله ليكن نور فكان نور ” (تكوين 1 : 3) .

فالكلمة إذن هي الأمر الإلهي في قوله ” لتخرج الأرض ” ، وقوله ” ليكن نور ” ويؤكد هذا ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين ” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله ” (3 : 11) أي ” بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بالأمر الإلهي ” وما جاء في رسالة بطرس الثانية ” الأرض بكلمة الله قائمة ” (3 : 5 أي ” الأرض بأمر الله قائمة ” وما جاء في المزامير ” بكلمة الرب صنعت السماوات ” (مزمور 33 : 6) أي ” بأمر الرب صنعت السماوات ” .
وعلى هذا فالمعنى صحيح وهو ما يجب حمل النص عليه . أما لو حملناها على ظاهرها قلنا : إن الكلمة هو الله كما هو منطوقها وأضفنا لهذا النص ” والكلمة صار جسدًا ” ( يوحنا 1 : 14) لاستحال ذلك لأن صيرورة الله جسدًا محال لتنزهه عن التغيير إذ المتغير حادث لا محالة ولصار النص مختل المبنى ركيك المعنى بل لا معنى له أصلًا ، لأننا لو قرأناها مفسرة أي بجعل الكلمة الله كما يفسرونها على ظاهرها لكان منطوقها هذا :

الله والله الله في البدء كان ـــ ـــ كان عند الله وكان ــــ الله الكلمة والكلمة الكلمة وأي معنى لهذا ، ومع هذا فالآية لا تشير إلى السيد المسيح عليه السلام من بعيد أو قريب فأين لنا الاستدلال بها على ذلك ؟
وليكن معلومًا أن إنجيل يوحنا هو الإنجيل الذي انفرد بين الأناجيل الأربعة باصطباغه بالصبغة اليونانية ، ويأخذ بكثير من مقولات الفلاسفة اليونانيين .
ولكن يقول قائل كيف نشأت نظرية التجسد والفداء ؟
إنه بولس الذي اندس – داعيًا بتعاليم شديدة الكفر- كما قال ذلك عنه برنابا في افتتاحية إنجيله . اندس بين التلاميذ خلسة ويقرر لوقا عن ارتياب التلاميذ منه قائلًا :
” ولما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ ” (أعمال الرسل 26 : 9) .

هذا بولس الذي قال لتلميذه تيموثاوس : ” وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله طهر في الجسد ” ( تيموثاوس أولى 16 : 3) ، وقال في رسالته إلى أهل فيلبي : ” فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله . لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ” (فيلبي 2 : 5- 8) .
وهكذا انحرف بولس بدعوة المسيح دعوة التوحيد الامتداد الطبيعي للشريعة الموسوية إلى دعوة التثليث الامتداد الطبيعي لدين الإمبراطورية الرومانية الوثنية .

المشركون والمسجد الحرام
وفي الأسئلة سؤال يقول :
(لماذا تمنع السلطات السعودية دخول المسيحيين في الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية ؟ ) .
وهذا السؤال يحتاج إلى تصحيح :
فالسلطات السعودية لا تمنع دخول المسيحيين أو غيرهم من المشركين إلا تنفيذًا لأمر الله ، ونزولًا على حكمه .
ولقد نزل في منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام ، قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين الذين هم نجس دينًا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع . ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا صحبة أبي بكر رضي الله عنه عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، وأن لا يطوف بالبيت عريان .
فأتم الله ذلك ، وحكم به .
_________
(1) سورة التوبة ، آية 28.

قال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : ” كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، واتبع نهيه قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }
وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }
ودلت هذه الآية على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح : (المؤمن لا ينجس) وأما نجاسة بدن المشرك فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب .
وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ } .
قال محمد بن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن التجاة ، وليذهبن عنا ما كنا نصيب بها من المرافق ، فأنزل الله { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
وبعد :
فهذه بعض الإجابات عن بعض الأسئلة :
ولقد تركنا الإجابة المباشرة عن بعض الأسئلة ، لأن الإجابة عليها وردت عرضًا في مواضع أخرى . . . من موضوعات أخرى . . . !

خاتمة
وقبل أن أفرغ من هذا اللقاء . . أحب أن أوجه حديثًا إلى جماهير المسلمين . . حول (تسلل أخلاق وعادات وسنن من قبلنا إلينا) .
لتتبعن سنن ممن كان قبلكم
أعدد في هذه الخاتمة صفات وسمات ، حذرنا الله ورسوله منها ، ونهانا أن نتورط فيها . . . ولن أسرف في التعقيب أو التعليق على الآيات أو الأحاديث . !
فإن الآيات والأحاديث قادرة على أن تقول كل شيء . . . وليست في حاجة إلى إضافة أي شيء . . !
أ- ما جاء في القرآن الكريم
1- الحسد :
قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } (1)
ذم الله اليهود على الحسد الذي أكل قلوبهم ، وأقض مضاجعهم ، إذ منَّ الله على المؤمنين بالعلم النافع ، والعمل الصالح .
وقد يُبْتَلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن وفقه الله وهداه لعلم نافع ، أو عمل صالح .
2- البخل :
_________
(1) سورة البقرة ، آية 109.

قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا }{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (1)
والبخل- هنا- يشمل البخل بالعلم والبخل بالمال ، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر ، فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية .
كقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } (2)
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (3)
فوصف الله تعالى أهل الكتاب بأنهم يكتمون العلم ، بخلًا به ، وتارة حرصًا على الدنيا ومناصبها .
وهذا المرض قد يبتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم ، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلًا به ، أو كراهة أن ينال غيرهم من الفضل مثل ما نالوه ، أو رغبة في دنيا ، أو رهبة من الناس!
_________
(1) سورة النساء ، الآيتان 36 ، 37.
(2) سورة آل عمران ، آية 187.
(3) سورة البقرة ، آية 159.

وتارة يكون سبب كتمان العلم أن يكون العالم قد خالف غيره في مسألة ، أو انتسب إلى طائفة قد خولفت في مسألة ، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفيه . وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل .
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي : ” أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم ، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ” .
3- معرفة الحق بالرجال :
قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ }
بعد أن قال : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (1)
وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به ، والداعي إليه ، فلما جاءهم النبي الناطق به ، ووجدوه من بني إسماعيل ، وليس من بني إسرائيل لم ينقادوا له ، ولم يؤمنوا به ، فإنهم لا يقبلون الحق إلا من رجالهم ، وبني جنسهم .
وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى الطوائف والفرق !!
يعرفون الحق بالرجال ، ولا يعرفون الرجال بالحق!
_________
(1) سورة البقرة ، الآيات 89-91.

4- الغلو :
قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } (1)
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (2)
والغلو ، وبخاصة في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من هذه الأمة ، حتى زج بهم إلى متاهات وضلالات الحلول والاتحاد .
5- الرهبانية :
قال تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } (3)
_________
(1) سورة النساء ، آية 171.
(2) سورة المائدة ، آية 27.
(3) سورة الحديد ، آية 27.

وقد ابتلي بهذا الداء العياء جماهير من المبتدعين ، أطلقوا على أنفسهم الزهاد أو العباد أو الفقراء ، وحرَّموا على أنفسهم الطيبات من الرزق .
6- جعل حق التشريع لغير الله :
قال الله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } (1)
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ذلك بأنهم (أحَلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم) .
وذلك نص ما جاء في كتبهم ، فقد جاء في (الإصحاح 16 : عدد 18 ، 19) :
” وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات ” .
_________
(1) سورة التوبة ، الآيتان 30 ، 31.

وفي المنتسبين إلى الإسلام ، من يجعلون حق التشريع لغير الله ، من الشيوخ والرؤساء والآباء . . . فيقبلون منهم دون الرجوع إلى علم أو كتاب منير .
7- حكم الأغلبية :
قال تعالى : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } (1)
وبحكم الأغلبية الجاهلية ، التي لا ترجو لله وقارًا امتلأت مساجد المسلمين بالقبور ، قبور الأنبياء والصالحين وغير الأنبياء والصالحين ، بل ربما بالقبور الوهمية أحيانا!
8- احتقار ما عند الخصم :
قال سبحانه وتعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } (2) فاليهود اتهموا النصارى بأنهم ليسوا على شيء . . . أي شيء .
والنصارى اتهموا اليهود بأنهم ليسوا على شيء . . أي شيء !
وهذا أسلوب نعرفه في كل صاحب طريقة . . أو فرقة . . يزعم لنفسه ولأتباعه أن ما عليه هو الحق الذي لا يخالطه باطل ، وأن ما عليه غيره هو الباطل الذي لا يخالطه حق . . !
9- الاختلاف بسبب البغي :
_________
(1) سورة الكهف ، آية 21.
(2) سورة البقرة ، آية 113.

قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }{ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }{ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (1)
فهؤلاء هم بنو إسرائيل أنعم الله عليهم بنعم الدنيا والدين ، فاختلفوا شيعًا وأحزابًا ، يلعن بعضها بعضًا ويكَفِّر بعضها بعضًا . . . وهذا الاختلاف كان بعد العلم ، وبدافع البغي والظلم ، والعلو والغلو .
فمن سلك سبيلهم ، واقتفى أثرهم في بث الفرقة والشتات بين صفوف الموحدِّين ، فهو منهم ، ومصيره في الآخرة مصيرهم!
10- التفرق :
_________
(1) سورة الجاثية ، الآيات 16-19.

قال تعالى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } (1)
وهم اليهود والنصارى الذين افترقت كل أمة منهم على أكثر من سبعين فرقة نُهِي المسلمون عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة !!
11- البعد عن سبيل المؤمنين :
قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (2)
وما عليه اليهود والنصارى ، ومن استن بهم ، واقتفى آثارهم ليست من سبيل المؤمنين ، وإنما هي سبيل المفسدين والمغضوب عليهم والضالين!
12- اتباع الهوى :
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 105.
(2) سورة النساء ، آية 115.

قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ }{ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ }{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (1)
فكل ما خالف شرع الله وحكمه ودينه فهو هوى . . وليس بهدى . . . !
وإن أدنى انحراف عن الصراط المستقيم يؤدي بصاحبه إلى الضلال .
13- قسوة القلب :
_________
(1) سورة المائدة ، الآيتان 48 ، 49.

قال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (1)
نهى سبحانه وتعالى عن مشابهة أهل الكتاب في قسوة قلوبهم ، وقسوة القلوب من آثار المعاصي .
هذا قل من كل ، وغيض من فيض ، مما جاء في القرآن الكريم . . . من حديث عن سلوك الذين سبقونا من أهل الكتاب ، وسلوكهم في العقيدة والخلق والعلم .
وفي هذه الآيات ، وفي غيرها من نظائرها . . . تحذير لنا من التشبه بهم ، حتى لا نتردى مثلهم في مهاوي الخيال ، وسوء الحال والمآل!
_________
(1) سورة الحديد ، آية 16.

ب- ما جاء في الحديث الشريف
وإذا كان القرآن الكريم قد حذر وأنذر . . . من سلوك أهل الكتاب في العقائد أو الأخلاق أو العادات ، فلقد بين الحديث النبوي الشريف كثيرًا من هذه الأمور التي ينبغي للمسلم أن يكون على وعي بها ، وذكر لها !!
1- التقليد الأعمى :
فمن هذه الأمور : التقليد الأعمى .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ، ذراعًا بذراع ، وشبرًا بشبر ، وباعًا بباع ، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه ، قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (1) قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب ؟ قال : ” فهل الناس إلا هم ؟ » رواه ابن جرير ، وقال الحافظ ابن كثير وله شاهد في الصحيح .
_________
(1) سورة التوبة ، آية 69.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية ، أنه قال : ” ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ” رواه ابن جرير .
وروى البغوي في تفسير الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : ” أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة ، غير أني لا أدري هل تعبدون العجل أم لا ؟ ”
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ؟ قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ » .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع . فقيل : يا رسول الله ، كفارس والروم ؟ قال : ومَن الناس إلا أولئك » .
2- التنافس على الدنيا :

عن عمرو بن عوف « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما صالح أهل البحرين ، أمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : ” أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ؟ فقالوا : أجل يا رسول الله ، فقال : أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم » ، رواه البخاري في الفتن .
3- الفتنة بالنساء :
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ؟ فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » .
4- كثرة السؤال :

في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » .
فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإمساك عما لم يؤمروا به معلِّلًا ذلك بأن سبب هلاك الأولين ، إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره ، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها .
5- التشدد :
وروى أبو داود في سننه من حديث ابن وهب : أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }» (1)
6- الاختلاف في الكتاب :
_________
(1) سورة الحديد ، آية 27.

روى أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : « أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ؟ وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا ؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم ؟ أو بهذا بُعثتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا ، إنكم لستم مما ههنا في شيء ، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به ، والذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه » .
7- التبرك بالأشجار والأحجار :

روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي ، أنه قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، ونحن حديثو عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينيطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر إنها السنن قلتم ، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } (1) ، لتركبن سنن من كان قبلكم » ، رواه مالك والنسائي والترمذي .
8- التفرقة العنصرية :
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « لما كلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المخزومية التي سرقت قال : ” يا أسامة تشفع في حد من حدود الله تعالى ، إنما أهلك بني إسرائيل : أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » .
_________
(1) سورة الأعراف ، آية 138.

وهذا يتفق مع ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : « مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود ، فدعاهم ، فقال : أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلًا من علمائهم ، قال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجده الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم (تسويد الوجه) والجلد مكان الرجم . فقال صلى الله عليه وسلم : ” اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه » ، فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ } (1)
9- اتخاذ القبور مساجد :
_________
(1) سورة المائدة ، آية 41-وما بعدها.

روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : « سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : ” إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلًا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » .
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا : « لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم – يعنيان : مرض الموت- طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال : – وهو كذلك- : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا . يحذر ما صنعوا » .

وفي الصحيحين -أيضا- عن عائشة رضي الله عنها ، « أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها : مارية ، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح ، أو الرجل الصالح ، بنَوْا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج » ، رواه أهل السنن .
10- أعياد مبتدعة :
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } (1)
فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } ، قال : هو الشعانين .
وكذلك ذكر عن مجاهد قال : هو أعياد المشركين .
وروى أبو الشيخ الأصبهاني – بإسناده- عن عطاء بن يسار ، قال : قال عمر : ” إياكم ورطانة الأعاجم ، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم ” .
_________
(1) سورة الفرقان ، آية 72.

وأعياد المشركين ، أعياد مبتدعة جمعت بين الشبهة والشهوة والباطل والهوى .
روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدًا والنصارى بعد غد » ، متفق عليه .
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيدًا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد .
11- الأبواق والنواقيس . . للعبادة :

روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم ، أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار ، قال : « اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكروا له القنع -شبور اليهود- فلم يعجبه ذلك وقال : هو من أمر اليهود ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من فعل النصارى ، فانصرف عبد الله بن زيد ، وهو مهتم لِهمِّ النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذا أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ، قال : ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ما منعك أن تخبرنا ؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بلال ، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذن بلال » .
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بوق اليهود المنفوخ بالفم ، وناقوس النصارى المضروب باليد .

وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقًا في غير الصلاة أيضًا ، لأنه من أمر اليهود والنصارى كما يقول ابن تيمية في كتابه القيم : (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) .
بناء الشخصية المسلمة :
وإذا كنا قد نهينا عن التشبه بهم في عقائدهم ، وأخلاقهم ، وعباداتهم ، وسلوكهم العام والخاص ، فلقد نهينا كذلك عن التشبه بهم حتى في الأمور الشكلية الظاهرية . . حتى تحتفظ الجماعة الإسلامية بشخصيتها المتميزة ، التي لا تتميع ولا تذوب في الشخصيات الأخرى . . . !
وهذا أمر هام في بناء الكيان المستقل والذات المتماسكة ، والمجتمع القوي . . . وننقل -هنا- بعض ما رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد :
1- تغيير الشيب :
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم » .
قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ، ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب » .
2 – إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب :

في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خالفوا المشركين ، جزوا الشوارب ، واعفوا اللحى » .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جزوا الشوارب ، وارخوا اللحى ، خالفوا المجوس » .
3- الصلاة في النعال :
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم » ، رواه أبو داود ” .
4- السحور :
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور » رواه مسلم في صحيحه .
5- تعجيل الفطر :
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرون » .
6- معاملة الحائض :

عن حماد عن ثابت « أن أنس رضي الله عنه ، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }» (1)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح ، فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه . رواه مسلم .
ويبلغ النهي عن التشبه باليهود والنصارى ، ومن عداهم من أصحاب النحل والملل المخالفة لما عليه المسلمون : مداه ومنتهاه -حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عنه أبو داود في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « من تشبه بقوم فهو منهم » .
يقول عبد الله بن عمرو : ” مَن بنى بأرض المشركين ، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت ، حشر معهم يوم القيامة ” .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 222.

وقبل أن أنهي القول في هذا اللقاء أحب أن أسجل الكلمات التالية :
إن (جهود التنصير) القائمة على قدم وساق في بلاد المسلمين ، جهود تستدعي الدراسة ، وتسترعي الانتباه ، ذلك أن هذه الجهود المكثفة ، المتواصلة . . . تلقي في طريق ضعاف الإيمان الشبهات والشكوك . . . وتصدهم عن دين الله ، وعن هداه .
إن هذه الجهود قامت ، وتقوم بتحريف الكلم عن مواضعه ، وتحريف الكلم عن مواضعه صناعة قديمة لأهل الكتاب جميعًا ، قاموا بها بالنسبة لكتبهم ، حتى غيروها وبدلوها لفظًا ومعنًى ، ونصًّا وروحًا .
وأهل الكتاب -من يهود ونصارى- يحاولون أن يقوموا بهذا الدور بالنسبة لكتاب-رَبِّنا-!
وإذا كانوا قد يئسوا من تغيير النص المحفوظ في الصدور والسطور ، فإنهم يطمعون في أن ينجحوا في إثارة الشبهات والشكوك في معاني الألفاظ ودلائل العبارات ، وأصول الدين وفروعه .
تلك عادة ألفوها . . . !
فهم لا يكتبون عن الإسلام إلا بهذه الروح .
يحسبون أن الأكاذيب هي خير طريق لاستقطاب المسلمين ، وصرفهم عن حقائق الدين !
وأقول : إن الأكاذيب لا تعيش ، ولو عاشت فإنها لا تعمر طويلًا !!

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } (1)
إن على المسلمين أن ينتهبوا لهذه الحيلة والأحبولة . . فيتتبعون أكاذيب أهل الكتاب بالإزالة والإزاحة . . والمقاومة والمكافحة .
وإذا كانت حركة التنصير تستهدف ضرب الإسلام في أرضه وبين أبنائه ، بحيث تصبح الذراري المسلمة ، نصرانية الاسم والوجه واللسان والكيان . . ! وتستغل لهذا الغرض المشبوه بيئة معينة تسهل عليها هذه الحركة ، وتلك البيئة تكون مصابة بالأمية ، أو الفقر ، أو المرض . . !
فتقدم لهم العلم والخبز والدواء المشروط !
فتسقط الضحايا ، وتكون المأساة !
هذا وجه من وجوه الحركة التنصيرية . . . أو التبشيرية حسب تسمياتهم ، وما تواضعوا عليه !
ولكن . . . هناك أوجه أخرى . . . ومنطلقات أخرى لذلك التحرك المشبوه . . ذلك أن هؤلاء الناس قد يتعبهم . . ويتعبهم جدًّا . . أن يجدوا من يغير اسمه من ( محمد ) إلى ( بطرس ) .
ولهذا رأوا أن يستبقوا ( لمحمد ) اسمه . . اسمه فقط . . . !
لكن يقومون بتغيير عقله ، وقلبه ، وخُلِقه ، ودينه ، ويقينه !
فيصبح نصراني الكيان . . وإن لم يصبح نصراني الاسم !
_________
(1) سورة الأنبياء ، آية 18.

ولقد استغلوا لهذه الغاية ، هذه المنطلقات :
أ- الأمية الدينية ، تلك التي تحول الإسلام إلى قبورية ، وصوفية ، وخرافة ، ودجل ، وشعوذة :
ولهذا وجدنا (المحافل التبشيرية) تقدم الصورة الإسلامية من خلال هذا الركام . . وتعرضه على الناس في كتابات ، ومصورات ، وأفلام . . لتقول للناس هذا هو الإسلام الذي نحاربه ونريد أن نجهز عليه !!
إننا نذكر ونحذر من هذه الأمية الدينية ، فإنها أخطر الأميات جميعًا . . وعلى كل الأجهزة التربوية ، مباشرة وغير مباشرة ، في بلاد المسلمين . . أن تتنبه لها بالمقاومة . . . والتصحيح !
ب- التدين الأعمى : كذلك فإن الدوائر التبشيربة ، وتؤيدها جحافل الاستعمار قديمه وحديثه . . . تريد أن يغرق المسلمون حتى آذانهم . . . في هذا التدين الأعمى ، الذي لم ينزل به كتاب ، ولم تقل به سُنَّة !!
فإذا ما سقط المسلمون في براثن هذا التدين سهل على أعدائهم أن يقتنصوهم . . وأن يسمموا أفكارهم !
إنه لا يصد التبشير بكل صوره ، وكافة مؤسساته إلا الإسلام الصحيح . . . تلك حقيقة لا بد أن نقف عليها ونحن نخوض أي معركة . . . مع أي عدو . . وبخاصة تلك المعارك الفكرية والعقائدية .

– النحل الفاسدة : وذلك هو المنطلق الثالث الذي يثب منه هؤلاء المبشرون . . أو المنفرون . . على ديننا ودنيانا ، إنهم يثيرون عدة قضايا محفوظة . . ويرددونها بلا وعي ، كالببغاوات .
ثم يجيب المتحدثون المسلمون عن هذه القضايا . . . أو النحل الفاسدة . . . يجيبون إجابات مقنعة ومحددة . . . ولكن هؤلاء الناس لا يكفون . . عن إثارتها من جديد .
غير أنني لاحظت أمرًا في هذا اللقاء الذي نحن بصدده ، هو أن الله سبحانه وتعالى الذي تكفل لكتابه بالحفظ ، ولدينه بالظهور على الدين كله يُسَخِّر هؤلاء المبشرين لخدمة الإسلام وهم لا يشعرون . . !
فهم حينما يثيرون هذه القضايا . . . ونجيب عليها . . . يظهر عوارهم وضلالهم جليًّا وواضحًا . . !
فإذا بالإسلام هو الحق الذي لا شك فيه . . !
وإذا بدياناتهم ، التي هم عليها ، هي الباطل الذي لا شك فيه!
لقد أدرت مناقشات مع كثيرين . . . من هؤلاء . . . سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق . . !
وكنت في كل مرة أخرج بنتيجة موفقة .
وليس ذلك لسر فِيَّ أو قدرة . . . وإنما هي قدرة الإسلام وعظمته .

وليس ذلك -أيضا- لضعف في الخصوم ، أو قلة فهم أو علم . . . ولكنه ضعف القضية التي يدعون إليها ، ويدافعون عنها . . . وهكذا . . . وهكذا .

وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود

وبعد :
فلقد قلنا ما نعلم ، والله أعلم .
ولم ندخر جهدًا ولا وسعًا ولا إخلاصًا . . .
والله هو المسؤول أن يفتح للكلمات عيونًا عمياء ، وآذانًا صمًّا ، وقلوبًا غلفًا !!
(اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
(اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض .
ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض .
ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن .
أنت الحق ، ووعدك حق ، وقولك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت) .
ويا رب العالمين ،

إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الدكتور محمد جميل غازي

الجلسة الختامية
1- كلمة القس البشير جيمس بخيت سليمان
2- كلمة الشيخ طاهر أحمد طالبي
3- كلمة اللواء إبراهيم أحمد عمر
4- كلمة الشيخ محمد هاشم الهدية
5- كلمة الشيخ إبراهيم خليل أحمد
كلمة القس البشير جيمس بخيت سليمان
عن الجانب المسيحي الذي سيعلن إسلامه الآن
السادة أعضاء هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان
السيد فضيلة الملحق الديني السعودي بالخرطوم
السادة الضيوف الكرام
حسبما تقرر في بداية الجلسة الأولى بأن تعطى الفرصة للعلماء : جميل غازي وأحمد عبد الوهاب وإبراهيم خليل لمواصلة الإجابة على الأسئلة الإسلامية والمسيحية التي تقدمنا بها إلى سيادتكم آملين أن نجد تفسيرات وتوضيحات تزيل كل الشكوك العالقة في نفوسنا ، وذلك لمعرفة الحق من الباطل ، وبعده نبدي برأينا فيما يجيء من الإجابات .
ولا شك أنكم تتوقعون منا في هذه اللحظة أن ندخل في حوار معكم للرد على إجاباتكم وتفصيلاتكم للعقيدتين الإسلامية والمسيحية .
ولكننا نقول أمام الله ونحن صادقون : إننا لا نملك أي رد غير إعلان الإسلام دينًا لنا ، والتمسك بكل قيمه ومثله لأنه الحق والنور لخير الأمم في الدنيا والآخرة .

سادتي : من هذا المنطلق الروحي الهادف : علينا أن نعلن أن هناك مسؤوليات عديدة تنتظرنا ، ليس تجاه هؤلاء الإخوان الذين أسلموا فقط ، وإنما هناك أيضًا قساوسة وقادة مسيحيين ومسيحيات في حاجة لمعرفة ما خرجنا به في الحوار الذي دار بيننا ، وهذا لا شك جزء من مهمتنا الأساسية التي يجب أن نتعاون فيها ونحن صادقون لا لأجل شيء وإنما لإبلاغ الجميع مسلمين كانوا أو مسيحيين بكل الحقائق التي أوحى بها -سبحانه وتعالى- إلى خير خلقه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وقبل أن أختتم حديثي أود أن أخص بالشكر كل الإخوة الذين ساهموا بشتى الوسائل المقدرة لإنجاح هذا الحوار والخروج بنتائج مثمرة ستظل باقية لكل الأجيال ، ليس في السودان فحسب وإنما لكل الأمم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

كلمة الشيخ طاهر أحمد طالبي
الملحق الديني بسفارة السعودية بالخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هاديَ له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا }{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخوتي الكرام :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في هذا اللقاء الطيب ، وفي هذه الجلسة المباركة ، يسعدني ويشرفني أن أفتتح معكم هذا اللقاء الذي بدأناه بست جلسات متوالية استمرت أكثر من عشرين ساعة . وكأني أريد أن أجيب على سؤال مقدم فكأني أرى أن سائلًا يريد أن يسألني : كيف تم هذا اللقاء ؟ وما هي القصة التي حدثت لتنظيمه ؟ وهذا اللقاء كما تعلمون بين مسلمين ومسيحيين .
بدأت قصة هذا اللقاء بأن البشير القس جيمس بخيت سليمان كان له نشاط بين الكنائس المختلفة باحثًا عن الحقيقة . وأخيرًا لجأ إلى زميلي سعادة الأستاذ جويعد النفيعي الملحق التعليمي بسفارة المملكة العربية السعودية ، وأخبره بأنه يريد البحث عن حقيقة الدين ليصل إليها ويريد نقاشًا إسلاميًّا ليتوصل إلى الحقيقة .
ثم جمع بيني ولينه في لقاء قصير حدثني فيه جيمس بخيت سليمان عن حياته من بدايتها إلى نهايتها بإيجاز ، ثم حددنا موعدًا لهذا اللقاء وكان قد تم هذا الموعد بتاريخ 23 من المحرم 1401 هـ ، الموافق أول ديسمبر 1980 م ، وذلك بهيئة إحياء النشاط الإسلامي بأم درمان .

وفي الحقيقة حينما طلب مني هذا النقاش كنت قد التقيت بفضيلة الدكتور محمد جميل غازي الذي حضر إلى هنا بدعوة خاصة من بعض إخوانه لإلقاء محاضرات دينية في السودان .
فأرشدني -جزاه الله خيرًا- إلى فضيلة الشيخ إبراهيم خليل أحمد وقال لي : إنه رجل فاضل وكان قسيسًا وهداه الله إلى الإسلام وله معرفة كبيرة بموضوع اللقاء ، ثم سعادة اللواء أحمد عبد الوهاب فهو أيضًا مؤلف كتب كثيرة في النصرانية وفي المقارنة بين النصرانية والإسلام .
وقام هو -جزاه الله خيرًا- بالاتصال بهما وقد حضرا فورًا ، ولم يؤخرهما عن الحضور بضعة أيام سوى مطالب السفر والحجز وما إلى ذلك ، أي أنهما لبَّيا الحضور وتواجدا في الخرطوم قبل الموعد المحدد بأيام قليلة .
وكان أول لقاء كما قلت لكم يوم الاثنين الماضي ، عرض فيه البشير ( جيمس ) عدة أسئلة تتعلق بالمسيحية وأخرى تتعلق بالإسلام .
ومما عرضه على سبيل المثال عن النصرانية : الثالوث والصلب والفداء .

ومما عرضه عن الإسلام : القرآن وصِدْق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه خاتم النبيين ، والجهاد والحرب في الإسلام ، والخمر والخنزير ، وغيرهما من الأسئلة التي استمعتم إليها في ذلك الوقت يوم الاثنين الماضي حيث كتبت وسجلت .
وقد قام أصحاب الفضيلة : الدكتور محمد جميل غازي وسعادة اللواء أحمد عبد الوهاب وفضيلة الشيخ إبراهيم خليل أحمد بالإجابة على هذه الأسئلة سؤالًا سؤالًا بما لا يدع مجالًا للشك في أن الإسلام هو دين الله الحق وأن ما سواه باطل لا محالة .
لقد قاموا بالإجابة على جميع هذه الأسئلة وأكثر مما تضمنته الأسئلة . فقد قاموا بمحاضرات كثيرة استغرقت ستة أيام وفي كل يوم ثلاث ساعات متوالية ، وقد اختتمنا كل الجلسات البارحة في الساعة العاشرة تقريبًا مساءً .
وقد تركنا للبشير جيمس فرصة للتفكير والتشاور مع إخوانه بعد أن ختمنا تلك الجلسات وأنهيناها .
ولكنه حضر إليَّ اليوم صباحًا ، معلنًا دخوله وجميع جماعته في الإسلام ، وأنهم يعلنون صراحةً أنه هو الدين الحق وما سواه باطل ، وأن القرآن حق ، وأن محمدًا حق ، وسيعلنون ذلك إن شاء الله تعالى أمامكم فردًا فردًا .

إخوتي الكرام : لا أريد أن أطيل عليكم ولكنني أرجو من الله عز وجل أن تكون فاتحة خير للإسلام والمسلمين .
والله سبحانه وتعالى يقول : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما معناه : ليطلعن هذا الدين على ما طلعت عليه الشمس .
والكلمة الآن لسعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر ، أمين عام هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان ، فليتفضل مشكورًا وجزاه الله خيرًا .

كلمة اللواء إبراهيم أحمد عمر
أمين عام هيئة إحياء النشاط الإسلامي بالسودان
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل وعلى آله وصحبه وسلم .
الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } (1)
باسم هيئة إحياء النشاط الإسلامي أحييكم تحية الإسلام .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
_________
(1) سورة الإسراء ، آية 81.

إن رغبة هؤلاء المشاركون النصارى في تفهم الفوارق بين الإسلام والنصرانية كانت من جانبهم ، ليقرروا بعد التمحيص أن يدخلوا الإسلام عن عقيدة أو يرفضوه وكانت لنا نحن معشر الحاضرين فرصة لا تعوض ذلك بأن قيض الله لنا بفضل جهد فضيلة الشيخ طاهر أحمد طالبي الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بالسودان أن يحضر إلينا ويشرفنا ويمتعنا ويعلمنا ثلاثة من الأساتذة وهم جهابذة أجلاء وهم : فضيلة الدكتور محمد جميل غازي المتفقه في القرآن الكريم ، وسيادة اللواء العالم بمقارنة الأديان وخاصة الإسلام والنصرانية فوق علمه العسكري السيد اللواء أحمد عبد الوهاب ، ومعهما رجل غاص في بحور المسيحية بإيمان جعله من أكبر المبشرين بالنصرانية في صعيد مصر فتبحر وتعمق وفهم الأسفار المسيحية المقدسة وحصل على درجات علمية لاهوتية عالية في دينه ثم جاء يوم فانطبق على فضيلته قول الحق جل وعلا : { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، فسار في طريق الهداية وقرأ القرآن الكريم قراءة العالم المتبحر المثقف الفاهم بما يقرأ ، فآمن به ووجد ضالته في القرآن الكريم الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، فتحول

من كافر برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى واحد من أكبر المؤمنين بالله وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- والله أكبر .
تحدث أصحاب الفضيلة العلماء الثلاثة فأمتعونا ، وفوق هذا وذاك فإنهم قد أقنعوا بالحجة الدامغة والبرهان القاطع كل أبنائنا الذين جاءوا يسألون ، والله أكبر .
وها هم اليوم أمامكم مسلمون بحق وإيمان صادق . هم بعد إسلامهم المشرف لنا مجمع الحاضرين سنتعهدهم نحن جميعا ليعملوا ويتعلموا الإسلام بحق .
وهو الذي قال فيه ابن عمر رضي الله عنه : حدثني أبي – عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فقال : « بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام .
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا .
قال : صدقت .

قال : رضي الله عنه ؛ فعجبنا له يسأله ويصدقه .
ثم قال : فأخبرني عن الإيمان .
قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره .
قال : صدقت .
قال : فأخبرني عن الإحسان .
قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال : فأخبرني عن الساعة .
قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل .
قال : فأخبرني عن أماراتها .
قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
قال : ثم انطلق .
فلبثت مليًّا ثم قال لي -صلى الله عليه وسلم- يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم .
قال -صلى الله عليه وسلم- : إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم » .
هذه إخوتي هي رسالتنا نحو أبنائنا وإخواننا هؤلاء الذين دخلوا الإسلام وهي أن نعلمهم دينهم وسنفعل بإذن الله ، بل سنجعل منهم دعاة ومرشدين للدين الإسلامي بين أهلهم وعشيرتهم وسنكفل لهم العيش الشريف بالعمل الشريف إن شاء الله .
هذا كله نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء .
فمرحبًا بالإخوة والأبناء في دين الإسلام دين الحق ، وشكرًا بل من الشكر أجزله لأساتذتنا العلماء الأجلاء .

وأرجو -في الختام- أن أبشر بأن كل الذي دار في أيامنا وحلقاتنا هذه ، سيصدر بمشيئة الله في كتاب باللغات : العربية والإنجليزية والفرنسية . ونرجو أن يترجم إلى جميع لغات العالم -إن شاء الله- والله الموفق .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

كلمة فضيلة الشيخ محمد هاشم الهدية
رئيس جماعة أنصار السنةَّ المحمدية بالسودان
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . والصلاة على النبيّ الأمين ، وعلى آله وأصحابه الهداة المهديين . أما بعد :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لقد كانت مفاجأة بالنسبة لي ، لأن الاتفاق الذي افترقنا عليه بالأمس أن نلتقي في السادسة من هذا المساء لأمر غير هذا . وما علمت بهذا الحفل وهذه النتيجة الجيدة إلا قبل نصف ساعة فقط ، ولذلك أنا في سرور لا يعدله سرور . وكل ما أرجوه من الذين دخلوا الإسلام اليوم هو أن يكرسوا جهدهم ليتعلموا دينهم . ولي رجاء خاص أوجهه إلى الدكتور محمد جميل غازي بأن يولي هذا الشباب عناية خاصة ، ليتعلموا الدين في العقيدة السلفية . فما تفرقت كلمة المسلمين ، وما أصبحوا شيعًا وطوائف وأحزاب إلا بعد أن جعلوا العقيدة الواحدة مذاهب ، ففرقت كلمتهم وجعلتهم يتصارعون . وليتهم رضوا بما رضيَ به القرآن إذ قال : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (1)
_________
(1) سورة النساء ، آية 59.

يَسَّرَ الله هذا القرآن ، وأعلن أنه سهل مُيَسَّر لمن أراد أن يتفقه فيه ويفهمه . وجاء الشيطان ونفث في روع بعض من يدعون أنهم من علماء المسلمين ، ويتصدرون الدعوة الإسلامية ، فزعموا أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا . وهذا هو أول مسمار ضرب في نعش الجماعة الإسلامية .
إن الدكتور جميل موضع ثقتنا وموضع اعتزازنا ولا أود أن أمدحه وهو جالس ، وهو جدير بأن يمدح ، ولذا أرجوه في أن يتولى هذا الشباب ، ويرعاه رعاية خاصة ويحصرهم في كتاب الله ربهم وسُنَّة رسولهم صلى الله عليه وسلم ، وفي معناهما العربي الواضح .
وإني أنقل لكم عبارة وردت على لسان رجل أعجمي وليس بعربي ، إنه رجل من جنوب السودان دخل الإسلام واعتز به ، لقد سأله سائل : لمن الطوائف تنتمي ؟ فقال : نحن لا ندخل الطريقة (الصوفية) في الجنوب ، لأنها تفرق كلمة المسلمين . وإننا نعلمهم القرآن لأنه هو الذي يربطهم ويجعلهم أمة واحدة .

لذا أرجو من بخيت سليمان أن يستعد هو وزملاؤه للسفر إلى مصر . إن شاء الله ، لتعيشوا في مدرسة التوحيد وتدرسون الإسلام ، وتعرفون ما قدمه للعالم من مبادئ رفعت من شأن الضعاف فجعلتهم أقوياء ، والفقراء جعلتهم أغنياء ، والجهلاء جعلتهم علماء . وكان منهاجهم هو هذا القرآن ، بمعانيه الواضحة التي بيَّنها الرسول العظيم ، وهو الذي أُعْطِي جوامع الكلم .
وكذلك أرجو من الدكتور جميل أن يحصر أذكارهم في أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإني أهنئهم أولا بإسلامهم ، وأرجو لهم التوفيق في حياتهم المقبلة ، وإننا جميعًا بعون الله ومساعدته ورعايته سوف نكون لهم عضدًا وسندًا يجعل حياتهم الجديدة كلها سعادة وسرور .
ولعلكم رأيتم الأخ المسلم الواعي المدرك الشيخ إبراهيم خليل ، عندما كان يتحدث عن حياته السابقة ، ويتحدث عن حياته الحديثة ، ثم يجعل الفضل كله إلى الله رب العالمين أن ملأ قلبه بالإيمان .
ورسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- يقول له الله عز وجل { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1) ، وفي آية أخرى { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (2)
_________
(1) سورة الشورى ، آية 52.
(2) سورة القصص ، آية 56.

وإني أكرر الشكر وأؤيد ما قاله سعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر عن اللواء أحمد عبد الوهاب والأخ جميل والأستاذ إبراهيم خليل ، فلا شك أنهم أثروا مكتبتنا بعلوم ما عهدناها في الناس من قبل . فجزاهم الله خيرًا ، وزادهم الله من علمه .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

كلمة السيد الأستاذ إبراهيم خليل أحمد
نيابة عن إخوانه العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
إن هذا المقام مقام أخي وحبيبي الدكتور محمد جميل غازي ، الذي ظل بعيدًا عن أولاده خمسة شهور متوالية في الدعوة الإسلامية ، والذي لم يدخر جهدًا لإبلاغ الحق . إن هذا الموقف موقفه هو ، لكنه آثرني على نفسه ، فشكرًا له على حسن ثقته وتقديره .
سعادة الملحق الديني بالسفارة السعودية
سعادة اللواء إبراهيم أحمد عمر عن جمهورية السودان الديمقراطية
أتحدث بكلمتين لا ثالث لهما : الكلمة الأولى عن خطر الهيئات التبشيرية في البلاد الإسلامية ، والكلمة الثانية عن قوة الإسلام التي تسري رغم المعوقات ورغم المخططات التي يعملها المبشرون .

لعل في هذا العدد الذي أمامنا والذي أعلن إسلامه لدليل قاطع على أن هذا الشباب قد وقع تحت تأثير مكثف أنساه دينه ، وأنساه إسلامه ، وأنساه وطنه ، وضل السبيل ولم يعرف لنفسه طريقًا سويًّا ، حتى هدي ليأتي إلى هنا . لقد جئنا إلى هنا ولا نقول إننا نستطيع أن نهدي أو نعمل شيئًا ، إنما الهادي هو الله سبحانه وتعالى . فمثلنا كمثل زارع يبذر البذور ، ولكن تنمية البذور وازدهارها إنما هو على الله ، سبحانه وتعالى .
ولقد رأيتم هذه الزهور اليانعة ، وإنني أرى في هؤلاء آلافًا مؤلفة من السودانيين الذين وقعوا فريسة الاستعمار . فلا بد أن يعود هؤلاء جميعًا إلى الإسلام بقوة وبفرحة كبيرة . إن العمل التبشيري يدور في مراكز خمسة :
(1) المعاهد والمدارس
(2) المستشفيات .
(3) المنازل .
(4) الأندية الرياضية .
(5) الأماكن المفتوحة مثل الشوارع والتجمعات المختلفة حيث ينشط المبشر في حركته متجولًا من شارع إلى شارع ، ومن قرية إلى قرية ، ومن بيت إلى بيت .

إن هؤلاء المبشرين يصدق عليهم قول المسيح لليهود : ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلًا واحدًا . ومتى حصل تجعلونه ابنًا لجهنم أكثر منكم مضاعفا ” .
أيها الناس : إن الدعوة الإسلامية يجب أن يُعاد تقويمها ، وأن توضع الخطة لدرء هذا الخطر الذي يتمثل في الإرساليات الموجودة في أراضينا الإسلامية .
وإنني أتحدث عن تجربة : فقد كنت في جامعة أسيوط سنة 1976 م ، وحاضرت طلبة جامعة أسيوط ، وكانت المحاضرة الأولى عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، وكانت المحاضرة الثانية عن المسيح عليه السلام في الإنجيل والقرآن الكريم .
ولقد أثبت بالدليل القاطع أن المسيح عليه السلام لم يصلب ولم يقتل ، وذلك من الأناجيل ذاتها . وبناء عليه فإن كل ما بني على الصليب فإنما هو باطل . وكل ما بني على الباطل فهو باطل ؛ لأن الله وحده قادر أن يغفر للإنسان . أيهما أكثر قدرة : خلق السماوات والأرض ، أم أن يغفر للِإنسان ؟
والآيات الكريمة تؤكد أن الله -سبحانه- غفور رحيم .

إن المسيح -عليه السلام- في الأناجيل قد نادى بالتوحيد ، ولم يدع أنه ابن الله أو أنه الإله المتجسد ، أو ما شابه ذلك . ولقد أكد المسيح -عليه السلام- أن الروح القدس ملَك من ملائكة الله سبحانه وتعالى . لم يقل المسيح أبدًا إن هذا الروح هو الأقنوم الثالث ؛ إذ أنه الهيئة الثالثة لله سبحانه وتعالى .
إن الإنسان العاقل حينما يفكر بعقله يجد أن التثليث يتنافى تمامًا مع العقل والعلم والتوحيد الخالص . فهنيئًا لإخواننا لدخولهم في دين الله .
فحينما تحدثت في أسيوط ، فإني أقرر حقًّا أمام حضراتكم وهو أن سبعة عشر من شباب جامعة أسيوط قد أعلنوا إسلامهم بكل قوة ولكل جرأة .

أما الكلمة الثانية التي أريد أن أقولها فهي : أيها الإخوة إن الله -سبحانه وتعالى- قد هداكم إلى الإسلام . وعندما طلب الدكتور جميل غازي أن أتحدث إليكم فإنما لكي أكون مثالًا لكم ؛ لأني عندما دخلت الإسلام ، لم أدخله عفوًا أو بارتجال ، ولكن أخذت أدرس الإسلام عقيدةً وشريعةً وسلوكًا ، من سنة 1955م ، إلى نهاية 1959م ، أي خمس سنوات متتالية ، حتى أتاني اليقين فأعلنت الإسلام . ولقد شعرت أن الإسلام يفرض عليَّ فرضًا وهو أن أحمل رسالة التبليغ وأن أدعو برسالة لا إله إلا الله محمد رسول الله .
إنني في هذا اللقاء أعود بذاكرتي إلى ما قبل سنة 1955م ، حينما كنت قمة من قمم الكفر ، وكنت أضلل الشباب المسلم ، ولعل الله -سبحانه- أراد أن يطمئن نفسي ، وأنه قد غفر لي فعلًا ما تقدم من ذنبي ، إذ أراني هذا الشباب وقد أسلم . وإنني أقول لكم : أيها الشباب ، عليكم بالتفقه في الإسلام ، ومن منكم على درجة من المعرفة والعلم فعليه أن يضع كل إمكانياته في خدمة إخوانه المسلمين .
وإني لأرجو لكم كل خير وتوفيق وسعادة في ظل الإسلام ودين الحق والخير واليقين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقالات أخرى للكاتب

مشاركة

فيسبوك
تويتر
واتس
تيليجرام
Pinterest
Print

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *