مناظرة بين الإسلام والنصرانية- الجزء الثالث

مناظرة أظهرت حقائق عن النصرانية يجهلها كثير من الناس . وانتهت باعلان القساوسة المناظرين دخولهم في الإسلام والتبرؤ من أفكار النصرانية المضللة.

 

الجلسة الثالثة


القيامة والظهور .
شك التلاميذ في روايات القيامة والظهور.
بولس.
دين المسيح كان التوحيد .
كلمة إلى المبشرين .


القيامة والظهور


لقد انتهينا من دراسة قضية الصلب . وهي واحدة من أخطر القضايا المسيحية باعتبارها صارت ركيزة من ركائز العقيدة التي تبناها بولس ، وصار لها السيادة فيما بعد ، ولم تكن على الإطلاق من وصايا المسيح ولا من رسالته . وماذا رأينا فيها ؟
رأينا أن هذه المصادر المسيحية – وهي الأناجيل – قد اختلفت تماماً في كل جزئية تتعلق بموضوعات الصلب . وقلنا – من قبل – إننا نتبع في دوائرنا القضائية في كل بلد من بلاد العالم ، أنه عندما تختلف شهادة الشهود ، ترفض على الفور شهاداتهم .
كذلك فإن السمة الواضحة والعامل المشترك بين هذه المصادر المسيحية ، شيء واحد ، هو أن كل ما كتب قام على ظن وعلى تناقض يتناقض بعضه مع بعض ، وينقض بعضه بعضاً .

وقد عبرَ القرآن الكريم عن هذه الحالة في آية من آياته ، وذلك من معجزات القرآن فقد قال { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } (1)
لقد وجدنا أن كل ما كتب وخاصة ابتداء من قضية الصلب ، وملحقاتها وهي القيامة والظهور ، قد اختلف فيه كتبة الأناجيل جميعاً من الألف إلى الياء . ونبدأ الآن في دراسة قضية القيامة التي تقول – وفق التعليم المسيحي – إن المسيح صلب ومات ودفن وقام في اليوم الثالث ، وبعد ذلك ظهر لبعض الناس .
ولقد عرفنا دما سبق أنه لم يدفن في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ، كما قالت الأناجيل ، إذ أن المصلوب دفن في الأرض لمدة يوم واحد وليلتين على أحسن الفروض .
القيامة
_________
(1) سورة النساء .

بدأت روايات قيامة المسيح من الأموات وظهوره بعد الموت تنتشر ببطء شديد وسط المجموعة المسيحية الأولى ، بسبب إنكار تلاميذه وحوارييه – وعلى رأسهم بطرس – لتلك الروايات ، وشكهم فيها ، وعدم إيمانهم بوجود أدنى صلة بين رسالة المسيح الحقة التي تلقوها من معلمهم ، ولين فكرة القيامة من الأموات هذه التي صارت واحدة من ركائز العقائد المسيحية ؛ من أجل ذلك تأخر الإعلان عن قيامة المسيح وظهوره سبعة أسابيع ، فلم يذع خبرها بين عامة المسيحيين إلا بعد 50 يوماً ، كما تقول رسالة الأعمال التي سطرها ” لوقا ” بعد أكثر من 60 عاماً من رفع المسيح .
وإذا كان هذا هو مجمل حديث القيامة ، كما سجلته الأناجيل ، فمن الواجب ألا يغيب عن البال – كما يقول جورج كيرد : ” إن أول شهادة عن القيامة لم تعطها الأناجيل ، لكنها جاءت من رسائل بولس ، وعلى وجه الخصوص رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( الإصحاح 15 ) التي كتبت قبل أقدم الأناجيل بعشر سنوات على الأقل . ففي هذا الإصحاح نجد بولس يقتبس تعليماً تسلمه من أولئك الذين كانوا مسيحيين قبله ” (1) .
_________
(1) تفسير إنجيل لوقا : ص255 .

ولقد رأينا أن ما تقوله الأناجيل عن صلب المسيح وما امتلأت به من اختلافات ومتناقضات يكفي لرفضها ، وبالتالي كان ذلك مبرراً كافياً لرفض ما قام على الصلب وهو القيامة والظهور . ومع ذلك فلسوف نتجه إلى الأناجيل لنناقش من خلالها قضية القيامة والظهور بعناصرها الرئيسية :

زيارة النساء للقبر :

يقول مرقس : ” بعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه . وباكر جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس وكن يقلن في أنفسهن من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر . فتطلعن ورأين الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً جداً . ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن ، فقال لهن لا تندهشن ، أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب ، قد قام ، ليس هو ههنا هو ذا الموضع الذي وضعوه فيه ، لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل ، هناك ترونه كما قال لكم . فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن . ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات – 16 : 1 -8 ” .

يقول نينهام : ” إن الدافع المقترح لهذه الزيارة يدعو على أي حال إلى الدهشة . وإذا صرفنا النظر عن التساؤل الذي أثير ( عمن يدحرج الحجر ) فمن الصعب أن نثق في أن الغرض من زيارة النسوة كان دهان جسم إنسان انقضى على موته يوم وليلتان .
إن أغلب المعلقين يرددون ما يقوله مونتفيوري من أن السبب الذي تعزى إليه هذه الزيارة غير محتمل البتة . .
وفي الواقع نجد أنه حسب رواية القديس مرقس ، فإن جسد يسوع لم يدهن أبداً بعد الموت ، خلافاً لما جاء في ( يوحنا 19 : 40 ) ( الذي يقول : فأخذا – يوسف ونيقوديموس – جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب ، كما لليهود عادة أن يكفنوا ) . .
إن كثيرا من القراء سيتفقون في الرأي مع ما انتهى إليه فنسنت تيلور من أنه : من المحتمل أن يكون وصف مرقس محض خيال ، إذ أنه يصور لنا في وصفه بما يعتقد أنه حدث ” (1) .
وقد انفرد متى بما ذكره عن طلب اليهود من الحاكم الروماني بيلاطس أن يرسل حراساً لضبط القبر ، فاستجاب لهم ” فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر ” .
_________
(1) تفسير إنجيل مرقس : ص443 -444 .

بعد ذلك تكلم عن زيارة النساء للقبر بصورة مختلفة فقال : ” وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر . وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه ، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج . .
فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا . . اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قام من الأموات . .
فخرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه ” ( 28 : 1 – 8 ) .
ويقول جون فنتون : ” إن حدوث الزلزلة ، ونزول الملاك من السماء ، ودحرجة الحجر بعيداً ، وخوف الحراس ، كلها إضافات من عمل متى . .
كذلك نجد في إنجيل مرقس أن النساء لا تطعن الرسالة ، أما في متى فإنهن يطعنها ( فيخبرن التلاميذ بالقيامة ) ” (1) .
ويقول لوقا : ” في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس ، فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر . فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع .
_________
(1) تفسير إنجيل متى : ص449 -450 .

وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ، وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض قالا لهن . . ليس هو ههنا لكنه قام ، اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل ، فتذكرن كلامه ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر الباقين بهذا كله . وكانت مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن اللواتي قلن هذا للرسل ” ( 24 : 1 – 10 ) .
ويقول جورج كيرد : ” إن قصة لوقا عن القبر الخالي تسير بمحاذاة مرقس ، لكنها تختلف عنها في أربع نقاط :
فبينما يذكر مرقس شاباً واحداً عند القبر ، نجد لوقا يذكر رجلين .
وحسبما جاء في ( مرقس 16 : 17 ) قيل للنسوة : اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم – لكن لوقا يشير بدلا من ذلك إلى تعليم سبق إعطاؤه في الجليل . ذلك أنه حسب مصدر المعلومات الذي استقى منه لوقا فإن ظهور ( المسيح ) بعد القيامة لم يحدث في الجليل ، لكنه حدث فقط في أورشليم وما حولها .
كذلك نجد حسب رواية مرقس أن النسوة قد حملن برسالة فشلن في توصيلها لأنهن كن خائفات ، بينما يخبرنا لوقا أنهن قدمن تقريراً كاملًا عما رأينه وسمعنه إلى التلاميذ الآخرين .

وأخيراً فإن قائمة الأسماء مختلفة ، إذ أن لوقا يذكر يونا بدلا من سالومي التي ذكرها مرقس ” (1) .
أما رواية يوحنا عن القيامة فإنها مختلفة عما روته الأناجيل الثلاثة في عناصرها الرئيسية ، ذلك أن يوحنا يقول : ” في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باقٍ ، فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر .
فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه .
فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر . وكان الاثنان يركضان معاً .
فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولا إلى القبر . وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل ، ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان ، بل ملفوفا في موضع وحده فحينئذ دخل أيضا التلميذ الآخر الذي جاء أولا إلى القبر ورأى فآمن ، لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات . .
أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكي . . فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً ” ( 20 : 1 -10 ) .

_________
(1) تفسير إنجيل « لوقا » : ص 256 .

اختلاف الأناجيل في روايات الزيارة :

من الواضح أن هناك اختلافا بين ما ترويه الأناجيل عن زيارة النساء للقبر وملابساتها كما يتضح مما سبق ، بالإضافة إلى الآتي :
1 – يذكر مرقس أن توقيت زيارة النساء للقبر كان بعد طلوع الشمس ، بينما يقول الآخرون أن الزيارة كانت قبل طلوعها – فهي في متى ولوقا عند الفجر ، وفي يوحنا : والظلام باق ” .
2 – يذكر مرقس أن الزائرات كن ثلاث نسوة ، لكن متى يذكر اثنتين فقط ، بينما يقول لوقا إنهن كن جمعاً من النساء ، أما يوحنا فيجعل بطلة الزيارة هي مريم المجدلية بمفردها التي تذهب لتحضر معها بطرس ويوحنا ( التلميذ المحبوب ) .
ولا يتفق كتبة الأناجيل على شيء من العناصر الرئيسية لقصة الزيارة قدر اتفاقهم على جعل مريم المجدلية في موضع الصدارة بين الزائرات ، حتى أن يوحنا يجعلها الزائرة الوحيدة .
ولذلك صارت مريم المجدلية – التي أخرج منها المسيح سبعة شياطين – هي المصدر الرئيسي لكل ما قيل عن قيامة المسيح من الأموات .

3 – وعند القبر رأت النساء شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء – حسب مرقس – بينما هو في متى ” ملاك الرب . . وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج ) ، أما في لوقا ” رجلان بثياب براقة ” ، وفي يوحنا : ” ملاكين بثياب بيض جالسين واحد عند الرأس والآخر عند القدمين ” .
هذا : ولقد أضاف الأستاذ إبراهيم خليل أحمد إلى ما سبق بيانه بخصوص قضية القيامة التي اختلفت فيها الأناجيل اختلافاً يكفي لرفض شهاداتها جميعاً ، قوله :
لقد انفرد إنجيل متى بقوله : ” في الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس : قائلين يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم – فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلًا وشرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات . فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى .
فقال لهم بيلاطس عندكم حراس ، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون .
فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر ” ( 27 : 62 -66 ) .
ولذلك تكون الإجراءات التي تمت هي حراسة القبر وختم الحجر .
وإذا صرفنا النظر عن كيفية دحرجة الحجر واختلاف الأناجيل فيها ، فإننا نقرأ في متى بعد ذلك الآتي :

” وفيما هما ذاهبتان ( مريم المجدلية ومريم الأخرى ) إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان . فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة ، قائلين : قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام ، وإذا سمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين . فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم . فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم ” ( 28 : 11 -15 ) .
من ذلك يتبين أن خصوم المسيح وهم رؤساء الكهنة والشيوخ وكذا الحراس لم يشاهدوا قيامة المسيح ، ولم يشاهدوه بعد القيامة ، لكن الشيء الوحيد الذي اتفقوا عليه هو وجود القبر – الذي قيل إنه دفن فيه – خالياً .

وإذا رجعنا إلى قصة دانيال أثناء السبي البابلي لوجدنا نظيراً لقصة المقبرة التي وضع عليها حراس وسدت بحجر مختوم . فلقد حدث أن تآمر خصوم دانيال عليه ووشوا به عند الملك لأنه لا يتعبد له ، إنما بتعبد للإله الواحد خالق الأكوان . آنذاك غضب الملك وأمر بوضع دانيال في جب الأسوُد ، وقفله بحجر وختمه . وفي هذا يقول سفر دانيال : ” قالوا قدام الملك إن دانيال الذي من بني سبي يهوذا لم يجعل لك أيها الملك اعتباراً . . فلما سمع الملك هذا الكلام اغتاظ على نفسه جداً . . حينئذ أمر الملك فأحضروا دانيال وطرحوه في جب الأسوُد . أجاب الملك وقال لدانيال إن إلهك الذي تعبده دائماً هو ينجيك . وأتى بحجر ووضع على فم الجب وختمه الملك بخاتَمه وخاتم عظمائه .
ثم قام الملك باكراً عند الفجر وذهب مسرعاً إلى جب الأسوُد . فلما اقترب إلى الجب نادى دانيال بصوت أسيف . أجاب الملك وقال لدانيال . يا دانيال عبد الله الحي هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسوُد ؟ فتكلم دانيال مع الملك ، يا أيها الملك عش إلى الأبد . إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسوُد فلم تضرني لأني وجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضا . أيها الملك لم أفعل ذنباً .

حينئذ فرح الملك به وأمر بأن يصعد دانيال من الجب ، فأصعد دانيال من الجب ولم يوجد فيه ضرر لأنه آمن بإلهه .
فأمر الملك فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال وطرحوهم في جب الأسوُد هم وأولادهم ونساءهم . ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت كل عظامهم ” ( 6 : 13 -24 ) .
هنا حدثت المعجزة حقاً ، إذ رفعت الأختام في وجود شهود عاينوا دانيال قائماً بينهم حيا ، قد انتصر على الموت الذي كان ينتظره في فم الأسوُد ، وشهد بذلك أعداء دانيال وأصدقاؤه على السواء .
فلو كان المسيح هو ذلك الذي صلبوه ، ثم وضعوه في القبر ، ثم أقاموا عليه حراساً وختموه ، لكان الأولى به حين يقوم من الموت – كما يدعون – أن يحدث ذلك على مرأى ومسمع من أعدائه قبل أصدقائه ، حتى تتحقق المعجزة بشهادة الشهود ، خاصة وأن المسيح مارس معجزاته كلها أمام الناس سواء المؤمنين به أو المكذبين له .

أما أن توجد مقبرة خالية ، فيقال إن المسيح الذي دفن فيها قد قام ولم يره أحد ، فذلك شيء لا يقوم على أي أساس بسبب التضارب الواضح فيما ترويه الأناجيل عن القيامة التي تعتبر ركيزة من ركائز العقائد المسيحية والتي تفوق في أهميتها خروج دانيال حياً من جب الأسود آلاف المرات .
هذا ويقول جون فنتون : ” لقد كانت الكنيسة الأولى ترى في خروج دانيال حيا من جب الأسوُد نوعاً من المشابهة لقيامة يسوع . .
كما يلاحظ أن متى غير قول مرقس أن المرأتين اشترتا حنوطاً : ليأتين ويدهنه ، إلى قول آخر هو : لتنظرا القبر . ولعل السبب في ذلك هو أنه ما دام متى قد أدخل قصة ختم الحجر إلى روايته ، فلا بد أن يقوم بهذا التعديل ” (1) .
_________
(1) تفسير إنجيل متى : ص448 -450 .

وإذا كانت الكنيسة قد اعتبرت خروج دانيال من جب الأسوُد شبيهاً بقيامة المسيح ، أما كان ضرورياً للإقرار بتلك المشابهة أن يتوافر العنصر الضروري والكافي لتحقيق الحدث ، وهو شهادة الشهود من الأصدقاء والأعداء على السواء ؟ وهو الشيء الذي اكتمل في قصة دانيال ، وفقد تماماً في قصة المسيح . ونستطيع أن ندرك الآن قيمة هذه الفقرة المختصرة التي قررها أدولف هرنك : ” إن هناك عدداً من النقاط مؤكدة تاريخياً منها : أن أحداً من خصوم المسيح لم يره بعد موته ” (1) .
نعم . . إن رؤية الخصوم قبل الأصدقاء هي دليل هام ومفقود كان من اللازم تواجده -أولا – عند كل من يؤمن بحديث القيامة . . ولسوف يبقى مفقوداً إلى الأبد . .
_________
(1) تاريخ العقيدة : جـ1 ، ص85 .

الظهور

لقد درجنا على أن نبدأ أولا بذكر ما يقوله إنجيل مرقس في مختلف الموضوعات التي نتعرض لها في هذه الدراسة ، ثم نتبع ذلك بما تقوله بقية الأناجيل في ذات الموضوع . ويرجع ذلك لما هو متفق عليه من أن إنجيل مرقس يعتبر أقدم الأناجيل القانونية التي وصلتنا ، بالإضافة لكونه المصدر الرئيسي الذي نقل عنه كل من متى ولوقا . وإذا طبقنا تلك القاعدة التي درجنا عليها ، وبدأنا بما يقوله إنجيل مرقس عن ظهور المسيح بعد قيامته من الأموات فإننا نقول :
يقول إنجيل مرقس : لا شيء . . .
نعم : لا يقول إنجيل مرقس شيئا عن موضوع الظهور .

خاتمة انجيل مرقس

ولسوف يسرع بعض القراء إلى النسخ التي في متناول أيديهم من إنجيل مرقس ، بغية التثبت من حقيقة هذا الإدعاء الخطير ، فيجدون خاتمة هذا الإنجيل – ( الأعداد من 9 إلى 20 ) التي ينتهي بها الإصحاح السادس عشر – تتكلم عن ظهور المسيح لبعض الناس بعد فتنة الصلب وروايات القيامة .
وهنا يحدث لبس تزيله الحقيقة الآتية :

إن خاتمة إنجيل مرقس التي تتكلم عن ظهور المسيح – ( الأعداد من 9 إلى 20 ) – ليست من عمل مرقس كاتب الإنجيل ، ولكنها إضافات أدخلت إليه حوالي عام 180 م ، أي بعد أن سطر مرقس إنجيله بنحو 120 عاماً ، ولم تأخذ أي صورة قانونية إلا بعد عام 325 م .
لقد أشرنا إلى هذا من قبل عند الحديث عن مشاكل إنجيل مرقس – ونضيف الآن قول نينهام :
” إنه على الرغم من أن هذه الأعداد ( 9 – 20 ) تظهر في أغلب النسخ الموجودة لدينا من إنجيل مرقس ، إلا أن النسخة القياسية المراجعة مصيبة تماماً في اعتبارها غير شرعية ، منزلة إياها من النص إلى الهامش .
إن العالم الكاثوليكي الكبير ” لاجرانج ” واضح تماماً في قوله : إنه بالرغم من قانونيتها ( أي أنها جزء من الكتاب المقدس ) ، فإنها ليست قانونية بالمعنى الحرفي ( أي ليست من عمل القديس مرقس ) . وتقوم وجهة النظر التي تتطابق وآراء العلماء الآخرين على ثلاثة أسباب رئيسية هي :
1 – إن بعض أفضل النسخ من إنجيل مرقس تنتهي عند ( 16 : 8 ) ، وبعض النسخ الأخرى تتفق معها في حذف الأعداد ( 9 – 20 ) ، لكنها تعطي بدلا من ذلك خاتمة ( أخرى ) .

2 – إن كبار العلماء في القرن الرابع مثل ايزييوس وجيروم يشهدون بأن هذه الأعداد كانت ساقطة من أفضل النسخ الإغريقية المعلومة لديهم .
3 – والأكثر حسماً من كل ما سبق هو أن أسلوب تلك الأعداد ومفردات اللغة التي كتبت بها يعطي أسلوب القرن الثاني ، وهو شيء يختلف تماماً عما كتب به القديس مرقس .
إن هذه الفقرة لا يمكن تحديد تاريخها بالضبط ، ويمكن القول بأنها أصبحت تقبل كجزء من إنجيل مرقس حوالي عام 180 م ” (1) .
كذلك يقول جون فنتون : ” على حسب معلوماتنا فإن إنجيل مرقس الذي كان بين يدي متى ، قد انتهى عند ( 16 : 8 ) ، وعلى هذا فإن ظهور يسوع للنساء في إنجيل ( متى 28 : 8 ) قد أضافه متى .
وحسبما نعلم فإن إنجيل مرقس لم يحتو على أي روايات تتكلم عن ظهور الرب المقام من الأموات ” (2) .

روايات الأناجيل :

ومع ذلك فلسوف نذهب إلى نسخ إنجيل مرقس التي تتكلم عن ظهور المسيح فنجدها تقول :
” وبعد ما قام باكراً في أول الأسبوع ظهر أولا لمريم المجدلية التي قد أخرج منها سبعة شياطين . فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معها وهم ينوحون ويبكون ، فلما سمع أولئك أنه حي وقد نظرته ، لم يصدقوا .
_________
(1) تفسير إنجيل مرقس : ص449 -450 .
(2) تفسير إنجيل متى : ص449 -450 .

وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين في البرية . وذهب هذان وأخبرا الباقين ، فلم يصدقوا ولا هذين .
أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون وويخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ” ( 16 : 9 -14 ) .
ولقد علمنا حسب رواية متى عن زيارة النساء للقبر ، أن مريم المجدلية ومريم الأخرى قد حملها ملاك الرب رسالة يقول فيها : ” اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات . ها هو يتبعكم إلى الجليل ” .
وعندئذ خرجتا سريعاً من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه ” .
والآن نضيف قول متى : ” وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال ” سلام لكما ” فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له ، فقال لهما يسوع : لا تخافا اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني .
وأما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع .
ولما رأوه سجدوا له ، ولكن بعضهم شكوا ” ( 28 : 9 -17 ) .

هذا ، وبعد أن ذكر لوقا ما روته النسوة من حديث القيامة للتلاميذ والرسل نجده يتكلم عن الظهور فيقول : ” وإذا اثنين منهم كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم . . وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته . فقال لهما ما هذا الكلام الذي تتطارحان به . .
فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبيا مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب . .
ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد . فألزماه قائلين امكث معنا . . فلما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما .
فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم . وهم يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان . .
وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم .
فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحا .

فقال لهم : ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم ، انظروا يدي ورجلي إني أنا هو ، جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي . وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه . . فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل . فأخذ وأكل قدامهم ” ( 24 : 13 -43 ) .
ويقول يوحنا إن مريم المجدلية كانت تبكي عند القبر ، فقال لها الملاكان :
” يا امرأة لماذا تبكين قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه . ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع .
قال لها يسوع : يا إمرأة لماذا تبكين . من تطلبين . فظنت تلك أنه البستاني فقالت له يا سيد : إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه . فقال لها يسوع يا مريم . فالتفتت تلك وقالت له ربوني – الذي تفسيره يا معلم – فقال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى : أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم .

فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وأنه قد قال لها هذا . ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود ، جاء يسوع ووقف في الوسط . فرح التلاميذ أنهم رأوا الرب . .
أما توما أحد الاثني عشر . . فلم يكن معهم حين جاء يسوع . فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب فقال لهم : إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع أصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أومن .
وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ أيضا داخلًا وتوما معهم فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال : سلام لكم . .
بعد هذا أظهر أيضا يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية . . لما كان الصبح وقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه يسوع . . ثم جاء يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك . هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعد ما قام من الأموات ” ( 20 : 13 -26 ، 21 : 1 – 14 ) .

ملاحظات على روايات الأناجيل :

لقد عرضنا ما ترويه الأناجيل الأربعة عن ظهور المسيح ، وكلها روايات تسمح بإبداء الملاحظات الآتية :

1 – اتفق مرقس ومتى ويوحنا على أن الظهور الأول كان من نصيب مريم المجدلية التي لم تعرفه وظنته البتساني ، بينما أسقط لوقا تلك الرواية تماماً ، وجعل الظهور الأول من نصيب اثنين كانا منطلقين إلى قرية عمواس .
2 – حدث الظهور للتلاميذ مرة واحدة في كل من مرقس ومتى ولوقا ، بينما تحدث عنه يوحنا ثلاث مرات بصور مختلفة .
3 – اتفق مرقس ومتى على أن الظهور للأحد عشر تلميذاً حدث في الجليل ، فاختلفا في ذلك مع لوقا ويوحنا اللذين جعلاه في أورشليم .
4 – وأخطر من ذلك كله هو اتفاق الأناجيل في هذه القضية على شيء واحد هو أن ذلك الذي ظهر لمريم المجدلية وللتلاميذ كان غريباً عليهم ، ولم يعرفوه جميعاً وشكوا فيه ، وهم الذين عايشوا المسيح وعرفوه عن قرب .
كيف يقال بعد ذلك أن المسيح ظهر لمعارفه وتلاميذه ؟

تعليق الأستاذ إبراهيم خليل أحمد :

وراثة الخطيئة و غفران الخطايا:

هذا – ولقد أضاف الأستاذ إبراهيم خليل أحمد إلى ما سبق قوله :
إن القضية الرئيسية في المسيحية هي قضية الغفران وأنه بسبب خطيئة آدم المتوارثة فإن البشرية كلها هالكة لا محالة ولذلك جاء المسيح ليفديها بنفسه ، وكان قتله على الصليب – باعتباره ابن الله الوحيد – هو الثمن الذي ادعى بولس أنه دفع للمصالحة مع الله أو على حد تعبيره ” صولحنا مع الله بموت ابنه ” ( رومية 5 : 10 ) .
ولكن إن صح ما قيل عن الخطيئة المتوارثة – وهو غير صحيح على الإطلاق ولا يتفق مع عدل الله ولا شرائعه ومنها شريعة موسى ، فهل كان ضروريا تلك الرواية المأساوية التي تتمثل في قول المسيحية بقتل المسيح صلبا وسط صرخاته اليائسة التي كان يرفض فيها تلك الميتة الدموية ؟
أما كان يمكن أن تحدث المغفرة دون سفك دم بريء ، دم يرفض صاحبه بإصرار أن يسفك ؟ لنرجع إلى إنجيل متى نجده يقول : ” فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته . وإذا مفلوح يقدمونه إليه مطروحا على فراش . فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوح : ثق يا بنى ، مغفورة لك خطاياك .

وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف . فعلم يسوع أفكارهم فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم . أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك . أم أن يقال قم وامش ؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا .
حينئذ قال للمفلوح قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك فقام ومضى إلى بيته .
فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا ” ( 9 : 1 -8 ) .
لقد قال المسيح للمفلوح : ” مغفورة لك خطاياك ” ومغفورة اسم مفعول لفاعل تقديره الله سبحانه وتعالى لأن المخلوق لا يستطيع أن يغفر الخطايا ، تماما كما يقول إنسان عن إنسان آخر متوفى : المغفور له ، فهذا يعني أنه يرجو أن يغفر الله له .

بل إن متى ينسب للمسيح قوله : ” لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا ” . فكأن الله – سبحانه وتعالى – منح المسيح أن يغفر الخطايا بكلمة منه : وبناء على ذلك فإن مغفرة خطايا البشر ليست في حاجة إلى عملية صلبه وقتله وكل ذلك العمل الدرامي المفجع الذي ضاعف الخطايا – لو كان قد حدث كما يزعمون – بدلا من أن يمحوها . وأكثر من هذا أن المسيح أعطى لبطرس – الذي وصفه بأنه شيطان والذي تقول الأناجيل إنه تبرأ من سيده في وقت المحنة وأنكره أمام اليهود – سلطانا أن يغفر الخطايا فقال له : ” أعطيك مفاتيح ملكوت السموات ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات ” .

هل يستطيع الإنسان أن يغفر بكلمة ويعجز رب الإنسان عن مثل ذلك ؟
أين عقول الناس التي يفكرون بها ؟

لقد كتبت الأناجيل -كما علمتم – بعد عشرات السنين من رحيل المسيح ثم تعرضت للكثير من الإضافات والحذف . ولقد كان المسيح يعلم حقيقة من حوله وحقيقة الأدعياء الذين سيلتصقون باسمه وبرسالته ويزعمون أنهم رسله وتلاميذه رغم أنهم تلاميذ الشيطان الذي سيؤيدهم بعجائب وأضاليل تكون فتنة للناس . ولذلك قال كاتب إنجيل متى على لسانه : ” ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات ، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات . كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب . أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين ولاسمك صنعنا قوات كثيرة . فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط . اذهبوا عني يا فاعلي الإثم -7 : 21 -23 ” .

لقد لعب اسم الروح القدس دورا كبيرا في الدعوة باسم المسيح لدرجة أنهم لو وجدوا إنسانا يهذي فإنهم يقولون : قد امتلأ من الروح القدس . ولا شك أن المجرم هو أقدر من يدل على طرق الإجرام فإذا أردنا أن نحد من الجرائم علينا أن نأتي بجماعة من المجرمين ونتعرف منهم على أساليبهم ومن ثم نستطيع وضع الخطط اللازمة لمكافحة الإجرام .

ونأتي الآن إلى شاول – بولس – نجده يقول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس : ” ولكن ما أفعله سأفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضا في ما يفتخرون به . لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح . ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور . فليس عظيما إن كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر ، الذين نهايتهم تكون حسب أعمالهم .

أقول أيضا لا يظن أحد أني غبي وإلا فاقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضا قليلًا . الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه – 11 : 12 – 17 ” .
وعندما نأتي لفكر بولس في الصلب – مع إيماننا الكامل بأن المسيح لم يصلب على الإطلاق ولم يعلق على الصليب – نجده يقول : ” المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة – غلاطية : 3 -13 ” .

كيف هذا أيها الناس ؟ كيف يكون المسيح لعنة ؟ وكأن المسيح كان يتحرز ضد بولس وأفكاره وتابعيه حين قال في إنجيل يوحنا : “ هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي ، وأنا لست وحدي لأن الآب معي ” ( 16 : 32 -33 ) .

وهذا مخالف تماما لقول ذلك الذي علقوه على الصليب فصرخ يائسا يقول ” إلهي إلهي لماذا تركتني ” . إن هذا وحده كاف لإثبات عدم صلب المسيح . لقد كان هذا تعليقنا على فتنة الصلب وما ألحق به من روايات القيامة والظهور وسوف يكون موضوعي القادم هو الحديث عن البشارة بسيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم في التوراة والإنجيل .

بولس

حديثنا الآن عن بولس خاصة وقد علمنا لمحة عن فكر بولس وفلسفته لفكرة الصليب والفداء ، وهي مسيحيته التي قام يبشر بها وجاءت مخالفة لمسيحية المسيح الحقة التي اتسمت بالمحبة والوداعة ، خلافا لذلك العنف الدموي الذي اعتنقه بولس في مسيحيته الصليبية . ولسوف نرى كيف دخل بولس في المسيحية وكيف كان نتاج أفكاره ، خاصة وأن هناك قاعدة معروفة تقول : إنك لا تجني من الشوك العنب .
ولقد كان بولس – شاول – يهوديا واشتهر بعنفه في خصومته ، بل بعدائه الشديد لأتباع المسيح ولم يكن له حظ من رؤية المسيح – ولو مرة واحدة – في حياته .
يقول سفر أعمال الرسل : ” أما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالا ونساء ويسلمهم إلى السجن 3 : 8 ” .
” والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له ” شاول ” ، فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو . . ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم : يا رب لا تقم لهم هذه الحطية .
وإذ قال هذا رقد وقد كان شاول راضيا بقتله ” ( أعمال الرسل 7 : 58 -60 ، 8 : 1 -3 ) .
ثم أعلن بولس -فجأة – تحوله إلى المسيحية . . .

إن تاريخ الديانات يشهد لكثيرين كانوا من ألد أعدائها وأعداء النبي والرسول الذي جاء يدعو لها ثم يتحولون إليها ويصيرون من خير دعاتها . لكن القاعدة الهامة والخطيرة التي شذ فيها بولس هي أنه لم يلتزم بالتعاليم الموجودة في العقيدة الجديدة التي تحول إليها -وهي المسيحية – لكنه اختص بتعليم انفرد به وطفق يبشر به ، واستطاع بوسائله الخاصة ومهاراته أن ينحي كل التلاميذ جانبا ويتصدر الدعوة إلى المسيحية بعد أن اكتسح الآخرين . ولنرى الآن ماذا يقول سفر أعمال الرسل عن قصة تحول بولس إلى المسيحية . يقول الإصحاح التاسع : ” أما شاول فكان لم يزل ينفث تهددا وقتلًا على تلاميذ الرب . فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناسا من الطريق رجالا ونساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم .

وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتا قائلًا له : شاول لماذا تضطهدني ؟ فقال من أنت يا سيد . فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده . . فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد أن أفعل . فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل .

وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدا – 9 : 1 – 7 ” .
لكن الله – سبحانه وتعالى – دائما يبين الحق رحمة بالناس ولهذا نجد الإصحاح الثاني والعشرين من سفر أعمال الرسل يحكي قصة تحول بولس إلى المسيحية على لسانه شخصيا فيقول : ” حدثت لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق . . أبرق حولي من السماء نور عظيم . فسقطت على الأرض وسمعت صوتا قائلا لي : شاول شاول لماذا تضطهدني ؟ فأجبت من أنت يا سيد . فقال أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده . والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا الصوت الذي كلمني -22 : 6 -9 ” .
من ذلك نتبين أن المسافرين : سمعوا الصوت ولم ينظروا النور حسب قول الإصحاح ( 9 ) ، بينما ذكر الإصحاح ( 22 ) عكس ذلك تماما فقال : نظروا النور ولم يسمعوا الصوت . . هذه بداية دخول بولس إلى المسيحية وهي قصة مشكوك فيها تماما . .

قصة دخول بولس في المسيحية مشكوك فيها

لقد دخل بولس المسيحية – وفق رواية خطؤها واضح تماما – ثم انطلق بتعليمه الخاص الذي أعلن فيه الاستغناء عن كل تعليم تلقاه تلاميذ المسيح من معلمهم بدعوى أنه تلقى تعليمه من المسيح مباشرة في تلك الرؤيا المزعومة .

فهو يقول : ” لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته ، أن يعلن ابنه في لأبشر به بين الأمم للوقت لم أستشر لحما ودما ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل ( التلاميذ ) الذين قبلي ، بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضا إلى دمشق . ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يوما . ولكني لم أر غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب . والذي أكتب به إليكم هو ذا قدام الله إني لست أكذب فيه – غلاطية وهكذا بدأ بولس الدعوة إلى المسيحية وفق مفهومه الخاص لمدة ثلاث سنوات قبل أن يتعرف بتلاميذ المسيح الذين أسسوا الكنيسة الأم في أورشليم والذين كانوا المرجع في كل ما يتعلق بالمسيحية والدعوة إليها .

ثم يقول بولس : ” بعد أربعة عشر سنة صعدت إلى أورشليم مع برنابا آخذا معي تيطس أيضا . وإنما صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم ولكن بالانفراد على المعتبرين لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلًا . فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا على بشيء بل بالعكس إذ رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان ” ( غلاطية من ذلك يتضح : 2 : 1 -8 ) .
من ذلك يتضح :

1 – أن قصة دخول بولس في المسيحية مشكوك فيها ولا يمكن الاعتماد عليها لما فيها من تناقضات صارخة .
2 – لم يعرف بولس عن المسيحية سوى الصلب وسفك الدم وأن هذا شيء أختص به . وأما غير ذلك من تعاليم المسيح فقد أهمله تماما فهو يقول : ” أعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به إنه ليس بحسب إنسان . لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علمته بل بإعلان يسوع المسيح ” ( غلاطية 1 : 11 -12 ) .
” لأني لم أعزم أن أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا ” – ( 1 ) كورنثوس : 2 : 2 ) .
لقد بحث العلماء فكر بولس والتيارات التي أثرت فيه . وفي هذا يقول تشارلز دود :
” لقد أوضحنا سلفا أن فكرة الكمنولث العالمي كانت شائعة في العالم الوثني وكانت روما في تأثرها بالمثل العالية للرواقيين – الذين قدموا في أيام بولس رئيسا لوزراء الإمبراطورية ، وفي القرن التالي له اعتلى أحدهم عرش الإمبراطورية – فحاول تأسيس ذلك الكمنولث . ولقد تأثر بولس كأحد المواطنين الرومان بهذه الأفكار ” (1) .
_________
(1) من كتاب : « ماذا يعنيه بولس لنا اليوم » ، ص49 .

لقد فكر بولس في انشاء كمنولث مسيحي يقوم على اسم واحد وعلامة واحدة هما المسيح والصليب . ولا مانع أن تكون فيه أفكار وديانات مختلفة . . ليكن ما يكون . . إن بولس يعترف في رسائله بأنه لم يتحرز عن استخدام كل الوسائل لكسب أكبر عدد من الأتباع فهو يقول : ” إذ كنت حرا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين . فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود . وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس . . صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء . صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوما . وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكا فيه ” ( كورنثوس 9 : 19 – 23 ) .
وهكذا نجد بولس قد عرض المسيحية على أصحاب العقائد المختلفة بالصورة التي ترضي كلًا منهم وترتب على ذلك أنهم دخلوا الديانة الجديدة بعقائدهم وأفكارهم القديمة وكان لهذا – ولا يزال – أثره الخطير في المسيحية .
ولقد عرفنا من قبل أن برنابا هو الذي قدم بولس إلى التلاميذ لكن الذي حدث بعد ذلك أن أزاح بولس برنابا من تصدر الدعوة إلى المسيحية .

يقول سفر أعمال الرسل : ” فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر ” ( 15 : 39 ) . ولم يلبث بولس أن تشاجر مع بطرس – رئيس التلاميذ – ونحاه أيضا فهو يقول : ” لما أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة ” غلاطية 2 : 11 ) .
ومن المؤكد أن بولس لم يعلم قدر بطرس الذي أعطاه المسيح التفويض أن يحل ويربط كما يشاء والذي عينه راعيا لتلاميذه . . .
ولا داعي للحديث عن رسائل بولس فهي رسائل شخصية بحتة يقول في بعضها : ليس عندي أمر من الرب ولكني أعطى رأيا ( اكو : 7 : 25 ) 0 أو يقول : أظن أني أنا أيضا عندي روح الله ( أكو 7 : 40 ) . أو يقول : لست أقول على سبيل الأمر بل أعطي رأيا ( أكو 7 : 6 ) . وهكذا من مثل هذه الأمور الظنية التي لا تصلح إطلاقا لبناء عقيدة .
كذلك تنتهي رسائله بالحديث عن السلام وبث القبُلات المقدسة للرجال والنساء على السواء مثل قوله :
سلموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب . . ( رومية 16 : 12 ) .
سلموا على برسيس المحبولة التي تعبت كثيرا في الرب . . ( رومية 16 -12 ) .
سلموا بعضكم على بعض بقبُلة مقدسة . . ( رومية 16 : 16 ) .

مسيحية بولس

إن مسيحية بولس تقوم أساسا على فكرة الإله المخلص المقتول ، ولقد كانت الديانات التي شاعت في العالم الروماني في ذلك الوقت مثل ديانات إيزيس وميثرا وسيبل تقوم على نفس هذه الفكرة . ولهذا يقول مؤرخو الديانات إن التشابه ملحوظ بين المسيحية وتلك الديانات .

يقول : هربرت فيشر في كتابه ” تاريخ أوروبا ” : ” استدار العالم الروماني بشغف زائد إلى عبادات الشرق الملتهبة مثل عبادات إيزيس وسيرابيس وميثرا . . إن عباد إيزيس المصرية وسيبل الفريجية وميثرا الفارسي اشتركوا في معتقدات كثيرة وجدت في النظام المسيحي .

لقد اعتقدوا في اتحاد سري مقدس مع الكائن الإلهي إما عن طريق اقتران خلال الشعائر أو بطريقة أبسط عن طريق أكل لحم الإله في احتفال طقسي . . لقد كان الإله الذي يموت بين العويل والمراثي بيد أنه يقوم ثانية وسط صيحات الترحيب والسرور ، من الملامح الرئيسية في هذه العبادات الشرقية الغامضة . .

إن عبادة إيزيس قد نظمت بطريقة تماثل تماما ما في الكنيسة الكاثوليكية .

لقد كان هناك تنظيم كهنوتي مماثل مكون من البابا مع القسس والرهبان والمغنين وخدم الكنيسة . وكانت صورة السيدة ترصع بجواهر حقيقية أو مزيفة وكانت زينتها تعمل كل يوم كما كانت صلاة الصبح وأغاني المساء تغنى في معابدها الرئيسية . وكان الكهنة حليقي الرؤوس ويلبسون ملابس كهنوتية بيضاء من الكتان .

إن التحول من الوثنية إلى المسيحية لم يكن يعني الدخول في جو غريب كلية ، أو ممارسة ثورة فجائية . لقد كانت عملية التحول تتم بلطف . . وكانت طقوس العقيدة الجديدة استرجاعا للأسرار القديمة .
فقد كانت عقيدة الوسيط مألوفة في معتقدات الفرس وأتباع الأفلاطونية الحديثة وكانت فكرة التثليث معتقدا دينيا شائعا تنبع أساسا مما تعارفوا عليه من أن العدد ثلاثة هو العدد الكامل ” (1) .

ويقول أرنست كيللت في كتابه ” مختصر تاريخ الديانات ” : إن أوجه التشابه المحيرة بين شعيرة التعميد ( المسيحية ) – على سبيل المثال – وبين طقوس التطهير في ديانة أتيس وأدونيس لتصدم كل دارس . لقد أظهرت الديانة المسيحية قدرة ملحوظة في جميع العصور على الأخذ لنفسها ما يناسبها من الديانات الأخرى .
_________
(1) من كتاب : « تاريخ أوروبا » ، ص102 – 115 .

ولسوف أعطي هنا ملخصا لأسطورة أتيس وطقوس عبادته لأن هذا لم يؤثر فقط بعمق في المسيحية بل لأنه كان منتشرا في أغلب الإمبراطورية الرومانية . لقد حدثت قيامة أتيس في يوم الخامس والعشرين من مارس بدء الربيع وهو نفس اليوم الذي قام فيه المسيح من الأموات حسب أقوال كثير من المسيحيين . . كذلك فإن التشابه بين الطقوس السرية لديانة ميثرا والمسيحية مذهلة . إن المثرية لها طقوسها المتعلقة بالعشاء الرباني ومن الصعب التفريق بينها ولين ما في عقيدتنا المسيحية ، ولها احتفالات تماثل احتفالات عيد الميلاد ولها عيد القيامة ” (1) .

تعقيب الدكتور محمد جميل غازي :

هذا ولقد عقب الدكتور محمد جميل غازي بقوله : إن المسألة أصبحت من الوضوح بحيث لا بد من الإقرار بأن تسمى الديانة المسيحية الديانة البوليسية . فهي تنسب بحق لبولس وليس للمسيح عليه السلام . كذلك من المفيد معرفة أن الفاتيكان يعترف بموقف بولس من المسيحية وعدم حرصه عليها . فقد جاء في كتاب نشره الفاتيكان سنة 1968 م بعنوان : ” المسيحية عقيدة وعمل ” ما يلي في صفحة ( 50 ) :
_________
(1) من كتاب : « مختصر تاريخ الديانات » ، ص130 – 262 .

” كان القديس بولس منذ بدء المسيحية ينصح لحديثي الإيمان أن يحتفظوا بما كانوا عليه من أحوال قبل إيمانهم بيسوع ” .
إن هذا الإقرار الخطير يتفق وكل ما قاله اللواء أحمد عبد الوهاب عن بولس والمسيحية . والآن أقدم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد ليقول لنا شيئا عن فطيرة القربان والعشاء الرباني الذي كان معمولا به في الديانات الوثنية القديمة .

إضافات للأستاذ إبراهيم خليل أحمد :

وهنا قال الأستاذ إبراهيم خليل أحمد : جاء في إنجيل ( لوقا إصحاح 22 ) ( وفي الأناجيل الأخرى أيضا ) ما نصه : ” ولما كانت الساعة اتكأ والاثنا عشر رسولا معه . وقال شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم . لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله . ثم تناول كأسا وشكر وقال خذوا هذه واقتسموها بينكم لأني أقول لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله . وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلًا هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم . اصنعوا هذا لذكري . وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلًا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم . ولكن هو ذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة . وابن الإنسان ماض كما هو محتوم . ولكن ويل لذلك الإنسان الذي يسلمه ” ( لوقا 22 : 14 -22 ) .

كيف استطاع بولس إفساد المسيحية

من الملاحظ أن الأيام الأخيرة من حياة المسيح كانت مزدحمة بالقلق والرعب وكان المسيح حقيقة في أيامة الأخيرة ثابتا لكل الضغوط دون أن يتأثر بتلك القلاقل لأنه كان واثقا تمام الثقة أن الله – سبحانه وتعالى – سوف ينجيه .

لكن عندما نأتي حقيقة لتفسير هذا الكلام . فإني أقول في صراحة متناهية : من هو المصدر الأساسي لهذا النص ؟ إن هناك نصا في سفر أعمال الرسل يمنع الدم :
” بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم ” ( 20 : 15 ) .
فإذا كان ينهى عما ذبح للأصنام والدم فكيف يقال : ” هو ذا دمي . . اشربوه ” .

إن هذه وثنية منقولة من وثنية العبادات التي كانت متفشية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت . إن مصدر هذا النص أو إيحاءه إنما يرجع إلى تلك الوثنية المتفشية مثل المثرية الفارسية وكان من طقوسها العشاء الرباني ، وكان منها يوم 25 ديسمبر يوم الميلاد ويوم الأحد يوم الراحة . . كل هذه وثنية فارسية في عبادة ميثرا ثم غيرت اللافتة من ميثرا إلى المسيح . أما أن نؤمن بشريعة موسى التي تمنع الإنسان المؤمن عن الدم وبذلك تكون هذه العادة باطلة . . لأنه لا يعقل أن يقول المسيح ” كلوا جسدي هذا واشربوا دمي هذا . . . ” لسبب هو أن المسيح تحدى اليهود قائلا : ” ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ” . فهو يتحداهم ويؤكد عجزهم عن الوصول إلى المسيح بدليل قوله في إنجيل ( يوحنا إصحاح 8 عدد 28 ) :
فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو ولست أفعل شيئا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ” .
إن قصة الصلب منقوضة من أساسها تماما . .

كذلك فإن الذي صلب هو شبيه بابن الإنسان إذ يقول إنجيل يوحنا على لسان المسيح إصحاح 3 عدد 14 : ” وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ” .
وكانت الحية التي رفعها موسى شبيهة بالحية الحقيقية . فبالمقارنة نقول : كما رفع موسى شبيه الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع شبيه ابن الإنسان .
وعلى هذا الأساس نقول إن النص الذي يتكلم عن أكل جسد المسيح وشرب دمه إنما هو نص مقتبس من المصادر الوثنية المتفشية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت . لقد كان المسيح آمنا على نفسه وبالتالي كان جسده سليما ودمه سليما .
وأنا – كقسيس سابق – لا أقدر أن أتصور أن كسر لقمة وإعطائها لأخ – في العقيدة – يضعها تحت أسنانه تتحول إلى جسد المسيح ، ويشعر أن لحما تحت أسنانه . . !

ما أريد قوله هو بيان كيف استطاع بولس إفساد المسيحية . لقد قال المسيح : ” ما جئت لأنقض شريعة موسى ” وتجد في سفر التكوين إصحاح 17 عدد 9 في حديث الله -سبحانه وتعالى – لأبينا إبراهيم : ” وقال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدي . أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم . هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك . يختن منكم كل ذكر . فتختنون في لحم غرلتكم . فيكون علامة عهد بيني وبينكم . ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم . . وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها . إنه قد نكث عهدي ” . ( 17 : 9 -14 ) .
ونجد أن إبراهيم حين ختن كان عمره 100 سنة تقريبا وكان ابنه البكر إسماعيل عمره 14 سنة ، فهذا إبراهيم بقدره الجليل وابنه إسماعيل وبقية الخدم والعبيد اختتنوا جميعا . فكيف يأتي بولس بعد هذا ليبطل الختان ؟ لقد كان بولس إنسانا مشكوكا فيه من التلاميذ والرسل لولا برنابا الذي تحنن عليه وقدمه لهم لكنهم جميعا كانوا يخافونه .
وكان بولس من الصنف الوصولي الذي يطمع في الوصول إلى القمة حتى إذا ما وصل فإنه يتخلص من كل من خلفه .

لقد أراد بولس أن يخرج بالرسالة من اليهودية إلى الأمم علما بأن المسيح لم يأمر بهذا لأن الرسالة كانت محدودة في بني إسرائيل .
ولما كانت الأمم غير مختتنة فإنه لجأ إلى أول مجمع هاجم فيه الختان وقال إن الختان ختان القلب ، كمن يقول للمسلم إنك تستطيع دخول الصلاة بلا وضوء . فهذا إفساد للصلاة إذ قد هدم الأساس التي يجب السير عليها لإقامة الصلاة .

وقد استطاع التأثير على الحاضرين ، فنقرأ في سفر أعمال الرسل إصحاح 15 عدد 22 : ” حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة أن يختاروا رجلين منهم فيرسلوهما إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا يهوذا الملقب برسابا وسيلا رجلين متقدمين في الإخوة . وكتبوا بأيديهم هكذا . الرسل والمشايخ والإخوة يهدون سلاما إلى الإخوة الذين من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية . إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس . الذين نحن لم نأمرهم . رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا ويولس ، رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح . فقد أرسلنا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها . لأنه قد رأى الروح القدس ونحن لا نضع عليكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة . أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون . كونوا معافين ” ( 15 : 22 -29 ) .
هكذا صار الروح القدس لعبة في أفواههم فقد أمرهم ألا يختتنوا . . بهذا حطم بولس شريعة موسى تحطيما كبيرا . .

لماذا رفضت الكنيسة إنجيل برنابا ؟

وبالنسبة للطلاق نجد شريعة موسى تسمح بالطلاق كما في سفر التثنية ، لكن بولس يعمل على إشاعة الفاحشة بين الناس . فإذا كانت امرأة على خلاف مع زوجها فإنه يأمرها بعدم الطلاق . وهكذا وجد فساد في المجتمع حيث تضطر الزوجة إلى سلوك خفي مشين . وأريد أن أسأل الآن :
لماذا رفضت الكنيسة إنجيل برنابا ؟ . .
لأن برنابا في إنجيله بين بقوة ووضوح كيف أفسد بولس المسيحية وحولها إلى نصرانية يونانية ، ومن عقيدة تؤمن بالتوحيد وهو أن الله واحد أحد ، إلى عبادة ابن الله على شاكلة أوزوريس وإيزيس وحورس .
وأكتفي بهذا القدر الآن وأترك الأخ يكمل حديثه .
وقد عاد اللواء أحمد عبد الوهاب ليكمل حديثه قائلًا :
” اعترافات بولس بخطاياه ” !
وأخيرا نختتم الحديث عن بولس بنقل اعترافه بخطاياه الجسدية التي عجز عن الفكاك منها والتي جعلته واحدا من سبايا الخطيئة . ولقد أثبت باعترافه هذا – دون أن يدري – أن الزعم بصلب المسيح وقتله ، الذي عاش بولس يفلسفه ويدعو له ، قد ذهب سدى . فلا زال بولس باعترافه عبدا للخطيئة ، وثمنها عنده موته الأبدي . إن بولس يقول :

فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطيئة . لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فأنا أفعل . . فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطيئة ساكنة فيً . فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح . لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد . لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل . فإن كنت ما لمست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطيئة الساكنة في . إذا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي . فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن . ولكني أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي . ويحي أنا الإنسان الشقي . من ينقذني من جسد هذا الموت ؟ . . ” ( رومية 7 : 14 -24 ) .

دين المسيح كان التوحيد :

والآن بعد أن انتهينا من دراسة مصادر العقائد المسيحية من أناجيل وأسفار أخرى ، ورأينا كيف جاءت هذه لتصير كتبا مقدسة ، وماذا قال فيها علماء المسيحية ، ثم ماذا حوت من تنبؤات استحال تحقيقها ، ومن اختلافات وتناقضات وخاصة في القضايا الرئيسية مثل الصلب والقيامة والظهور ، فإن السؤال الذي نختتم به هو : ماذا كانت حقيقة دين المسيح ؟
إن المصادر المسيحية الموثوق فيها لا تملك سوى الإقرار بأن دعوة المسيح كانت توحيد الله ، ثم ما لبثت أن دخل عليها صنوف من عقائد أهل الشرك حتى إذا ما جاء القرن الرابع الميلادي كانت عقيدة التثليث المسيحي واحدة من نتاج ما يسمى بالمجامع المسيحية المقدسة . إن هذا مجمل ما تذكره دائرة المعارف الأمريكية في قولها :

” لقد بدأت عقيدة التوحيد – كحركة لاهوتية – بداية مبكرة جدا في التاريخ ، وفي حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين . لقد اشتقت المسيحية من اليهودية ، واليهودية صارمة في عقيدة التوحيد . إن الطريق الذي سار من أورشليم ( مجمع تلاميذ المسيح الأوائل ) إلى نيقية ( حيث تقرر مساواة المسيح بالله في الجوهر والأزلية عام 325 م ) كان من النادر القول بأنه كان طريقا مستقيما .
إن عقيدة التثليث التي أقرت في القرن الرابع الميلادي لم تعكس بدقة التعليم المسيحي الأول فيما يختص بطبيعة الله . لقد كانت على العكس من ذلك انحرافا عن هذا التعليم . ولهذا فإنها تطورت ضد التوحيد الخالص أو على الأقل يمكن القول بأنها كانت معارضة لما هو ضد التثليث كما أن انتصارها لم يكن كاملًا ” (1) .
لقد كانت عقيدة المسيح توحيدا نقيا ، ثم بدأ يتسرب إليها من العقائد المختلفة وخاصة العقائد الوثنية في العالم الروماني ما صبغها بالتثليث ، فأصبحت المسيحية التقليدية الشائعة هي مسيحية الثالوث .
_________
(1) دائرة المعارف الأمريكية : جـ 27 – ص 294 .

ولكن لا يزال يوجد إلى اليوم طائفة هامة وقوية من بين الطوائف المسيحية المشهورة هي طائفة ” الموحدين ” ، وقد أصبحت ظاهرة اليوم في الولايات المتحدة . ويتلخص قول الموحدين المسيحيين في : ” لا إله إلا الله – المسيح رسول الله ” إنسان فقط . وفيما يلي خلاصة مركزة لبعض مبادئ الفكر التوحيدي المسيحي :
1 – إن كنيسة الموحدين تعتبر الكتاب المقدس تسجيلًا قيما للخبرات الإنسانية وهي تصر على أن كاتبيه كانوا معرضين للخطأ . ولهذا السبب فإن أغلب الأجزاء الرئيسية للمعتقدات المسيحية قد رفضت .
2 – إن الثلاثة أقانيم تتطلب ثلاثة جواهر وبالتالي ثلاثة آلهة . . إن الأسفار لم تعط أي مستند للاعتقاد في التثليث . إن نظام الكون يتطلب مصدرا واحدا للشرح والتعليل لا ثلاثة . لذلك فإن عقيدة التثليث تفتقد أي قيمة دينية أو علمية .
3 – لقد قدمت اعتراضات قوية ضد عقيدة لاهوت يسوع المسيح . إن الكتاب المقدس لم يقل بذلك ، كما أن يسوع فكر في نفسه كزعيم ديني هو المسيا وليس كإله .

وبالمثل اعتقد التلاميذ أن يسوع مجرد إنسان ، إذ لو كان عند أي من بطرس أو يهوذا أية فكرة على أن يسوع إله لما كان هناك تفسير معقول لإنكار بطرس ليسوع وما كان هناك تبرير لخيانة يهوذا . إن الإنسان لا يمكن أن ينكر أو يخون كائنا إلهيا له كل القوى .
4 – إن الحقيقة المزعومة عن أن يسوع مات من أجل خطايانا وبهذا وقانا لعنة الله إنما هي مرفوضة قطعا . إن الاعتقاد في أن موت يسوع كان له هذه النتيجة إنما يعني الطعن في أخلاق الله .
إن الله يجب ألا يعرف عن طريق اللعنة بل عن طريق الحلم والحكمة والمحبة . .
إن الموت الدموي على الصليب من أجل إطفاء لعنة الإله لهو أمر مناقض للحلم الإلهي والصبر والود والمحبة التي لا نهاية لها .
5 – إن الموحدين ينظرون إلى يسوع باعتباره واحدا من قادة الأخلاق الفاضلة للبشر .
إنه لو كان إلها فإن المثل الذي ضربه لنا بعيشته الفاضلة يفقد كل ذرة من القيمة . حيث إنه يمتلك قوى لا نملكها . إن الإنسان لا يستطيع تقليد الإله ” (1) .
_________
(1) دائرة المعارف الأمريكية ، جـ27 ، ص300 -301 .

كلمة إلى المبشرين :

وقبل أن أختتم هذا الحديث لا بد لي من كلمة أوجهها إلى المبشرين – وخاصة الأجانب – الذين يعملون في البلاد الإسلامية :
” أيها المبشرون . . . ارفعوا أيديكم عن المسلمين . . أولى بكم أن تحملوا أمتعتكم وصحائفكم وتعودوا بها إلى بلادكم فلم تعد مثل بضاعتكم هذه صالحة للترويج والبيع بين المسلمين . . إنكم تعلمون أكثر من غيركم ما آلت إليه المسيحية عقيدة وأخلاقا بل ومظهرا . . فلم يعد يبقى منها – تقريبا – سوى اسمها .
فالأولى بمن تصدع بيته أن يقيم بناءه أولا ويصلح ما فسد منه قبل أن يخرج إلى العالم يدعوه – كما تزعمون – إلى الخلاص والإيمان . .
أولى بكم أن تتفقوا على عقيدة مسيحية واحدة تقوم على الإيمان بالإله الواحد الأحد الذي كان آخر وحي أنزل إلى موسى قوله : ” حي أنا إلى الأبد ” ( تثنية 32 : 40 ) ، ولقد ألزمكم المسيح بعقيدة موسى كما التزم هو بها وسجل ذلك كتبة الأناجيل . . وما من سبيل لإزالة الشقاق بين فرقكم وشيعكم المختلفة إلا هذا :

الإيمان بالإله الواحد الحي الذي لا يموت ، ثم الكف عن الخلط بين الله وبين المسيح كما قال بعض علماؤكم وجاء ذكره في أول هذا الحديث . . عندئذ – فقط – يمكن القول بأن المسيحية عقيدة تؤمن بالله الواحد . . أما وإن الحال على ما أنتم عليه حيث :
” يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ” على مر السنين والأيام فإن عملكم بين المسلمين لردهم عن عبادة الله الواحد الأحد ودعوتهم إلى الأقاليم التي اقتحمت مسيحية المسيح الحقة الفاضلة بعد أن تسللت إليها أقنوما أقنوما عبر تلك المجامع المختلفة والمتعاقبة ، فإن هذا الوضع يذكرني بقول المسيح في الإنجيل :
” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا ومتى حصل تصنعونه ابنا لجهنم أكثر منكم مضاعفا . . ” .
وإن دعوتكم المسلمين إلى المسيحية لتذكرني بموقف الملأ من قوم فرعون وذلك المؤمن بينهم الذي كان يكتم إيمانه . فلقد أخرسهم بحجته القوية قائلًا :

{ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ }{ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ }{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (1) .
أيها المبشرون : لقد انكشفت خططكم لتنصير المسلمين وافتضحت أساليبكم للعمل بينهم ، وإذا كان رق الجسد شيئا بغيضا فإن رق الروح لأشد بغضا وأكبر مقتا . إنكم تمارسون رق الروح حين تقدمون مساعدتكم المادية لفقراء المسلمين – متمثلة في حفنة من الأرز كما تفعلون في أندونيسيا – وذلك بشرط قبولهم للمسيحية التي تفرضونها عليهم . . سبحان الله . . لقد قتلتم بهذا أول حقوق الإنسان إذ حرمتموه حرية الاختيار . . .
_________
(1) سورة غافر ، الآيات 41 – 45 .

وأي رق أفظع من هذا ؟
ولقد بلغ الهوس ببعضكم أن قال منذ أكثر من 70 عاما – حين كان الاستعمار القديم جاثما على صدر العالم الإسلامي كله – إن الواجب على الهيئات التبشيرية أن تنتهي من تنصير المسلمين في مدى 25 عاما . . .
والحمد لله لقد انقضت نحو ثلاثة أمثال تلك المدة ولقي الإسلام قولا صامدا . بل إن السنوات الأخيرة قد شهدت – بفضل الله وحده – تحول الكثير من الأوروبيين والأمريكيين إلى الإسلام بسهولة وعن اقتناع ورضى وذلك بعد أن احتكوا بالعالم الإسلامي وعرفوا شيئا عن ذلك الدين الذي حرصتم دائما على تشويهه بكل ما أوتيتم من قوة . . .
نعم . . لقد كان همكم – كما قال برنارد شو – هو تدريب المسيحيين على كراهية محمد والقرآن والإسلام .
ولقد انتهزتهم كل خطأ أو تصرف أحمق يصدر عن بعض من في العالم الإسلامي سواء كانوا أفرادا أو جماعات ، لتقولوا هذا هو الإسلام . . رغم أنكم أول من يعلم كذب هذا القول ، لأن الإسلام شيء والمسلمين وسلوكهم وما هم عليه من ضعف الآن شيء آخر بعيد عن الإسلام .

إنكم تعلمون يقينا أن هناك حضارة إسلامية قامت على نصوص القرآن وتعاليم النبي وروح الإسلام التي تدعو إلى العلم وتحرير الفكر والنظر في الكون ، فانتشرت المدارس وحلقات العلم ونبغ العلماء في شتى فروعه مثل : الطب والفلك والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والصيدلة . ولا يزال إدخال الصفر في الحساب واكتشاف خاصية اللوغاريتم – الذي لا يزال اسمه يشير إلى مصدره الإسلامي وهو الخوارزمي – من أعظم الإنجازات في عالم الرياضيات ، كما اعترف بذلك أولو الفضل والعلم من الأوروبيين والأمريكيين .

هذا ، على حين أن الحضارة الغربية الحديثة لم تقم لها قائمة إلا بعد أن تحررت من سلطان الكنيسة – التي أحرقت العلماء ومنهم برونو لا لشيء إلا لأنه قال إن الأرض كروية – ثم أخذت علوم المسلمين واهتدت بأساليبهم في البحث والتجريب ومن ثم كانت هذه النهضة الأوروبية الحديثة . ولا أريد أن أذكركم أنه بينما كانت الحضارة الإسلامية تتألق في عصر هارون الرشيد كان معاصره شارلمان – سيد أوروبا – مشغولا بتنصير الوثنيين الأوروبيين بحد السيف . ويكفي أن أذكر ما تقوله وثائقكم التبشيرية من أنه قتل في يوم واحد 4500 وثنيا رفضوا التعميد والتحول للنصرانية ، وكانت المعاهدات بينه وبينهم تقضي بالتنصير وإلا فالقتل هو البديل .
ويعد شارلمان سحبت الكنيسة بعضا من طوائف الفرسان الصليبية من فلسطين – أيام الحروب الصليبية – ليساعدوا في تنصير شعوب بحر البلطيق بحد السيف ، ولقد استمروا في العمل هناك طيلة 50 عاما نظير ثمن حددته الكنيسة وهو الاستيلاء على أراضي أولئك الوثنيين ثمنا لإعطائهم المسيحية . . .

هذا ، بل إن أساسيات العلوم الذرية الحديثة قد جاءتكم من العالم الإسلامي . . أما قرأتم قول جون أونيل في كتابه ” الذرة الجبارة ” الذي أصدره عام 1945 م ، وجاء فيه : ” إن إحدى النقط المتلألأة في القرون الوسطى تأتي من العالم الإسلامي حيث نجد ما سطره قلم علي أبو الحسن – صهر محمد – الذي كتب يقول : إذا فلقت الذرة – أي ذرة – تجد في قلبها شمسا . إن هذا يدل على أن بصيرته الصافية قد استطاعت أن تلمح حقيقة النظام الشمسي الحديث في الذرة ” .
وجدير بالذكر أن عليَا بن أبي طالب قرر أن كل ما عنده من علم فهو ” علم علمه الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتنضم عليه جوانحي ” .
لقد كانت فكرة النظام الشخصي في الذرة متأصلة في التراث الإسلامي فها هو فريد الدين العطار يقول بعد خمسة قرون من مقالة علي هذه : ” الذرة فيها الشمس . . وإن شققت ذرة وجدت فيها عالما . وكل ذرات العالم في عمل لا تعطيل فيه ” .
لقد قامت النظرية الذرية الحديثة وما ترتب عليها من تطبيقات في مجال الحرب والسلم على السواء ، على أساس أن الذرة نظام شمسي – . فمتى عرفت أوروبا هذه النظرية ؟

يلخص العالم الطبيعي هيزنبرج الإجابة على هذا السؤال بقوله :
” ظلت الذرة كما كان يؤمن بها ديمقراط ذات حجم ذرات الغبار المتراقصة في حزمة ضوئية أو أقل بكثير ، وبالتالي كانت المعلومات عن شكل الذرات والقوى التي تعمل بينها قليلة . إن ما عرف عن تركيب الذرة كان قليلًا أو معدوما أما شكلها فلم يكن التساؤل عنه أمرا ممكنا وقد ادخر حل هذه المسألة للقرن العشرين ” .
” ويعتبر رذر فورد هو الذي اتخذ هذه الخطوة الهامة التي أدت إلى تركيب أول نموذج للذرة عام 1911 م ، وهو أن الذرة تتركب من نواة ذات شحنة موجبة وتدور حولها إلكترونات على مسافات بعيدة نسبيا عنها ، وأن عدد الإلكترونات يساوي عدد الشحنات الأولية الموجبة التي على النواة إذ أن الذرة متعادلة كهربيا في تركيبها ” .
إن الذرة بذلك نظام شمسي حيث تماثل نواتها الشمس بينما تماثل الإلكترونات السابحة حول النواة تلك الكواكب السيارة التي تسبح حول الشمس . . ولقد ذكر العالم الألماني أوتوهان صاحب انفلاق نواة اليورانيوم قوله : ” بالتأكيد فإن بعض الكتاب قد فكروا في هذه المسألة من قبل . . كما أن أجزاء من الحقيقة بالنسبة للنظرية الذرية الحديثة – قد ذكرت هنا أو هناك ” .

ولما كان قدامى الإغريق الذين تحدثوا في الذرة لم يدروا شيئا عن فكرة النظام الشمسي فيها ، لم ببق إلا التسليم بأن مصدر تلك النظرية هو التراث الإسلامي .
أما بعد فإن خير ما أذكر به أولئكم الذين جعلوا كل همهم تخريب عقيدة المسلمين وإخراجهم من نور التوحيد إلى متاهات التعدد والشرك هو ما يقوله القرآن الكريم فيهم وفي أمثالهم :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } (1) .
وأقولها ثانية : أيها المبشرون ارفعوا أيديكم عن المسلمين ، ومن كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة وإلا تحققت فيه نبوءة أشعياء التي ذكرها المسيح في الإنجيل :
_________
(1) سورة الأنفال ، الآيتان 36 – 37 .

” تسمعون سمعا ولاتفهمون ومبصرين تبصرون ولا تنظرون . لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم ” .
وأخيرا نختم الحديث بخير الكلام فأقول : –
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ }{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (1) .
_________
(1) سورة الصافات ، الآيات 180 -182 .

 

 

مقالات أخرى للكاتب

مشاركة

فيسبوك
تويتر
واتس
تيليجرام
Pinterest
Print

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

On Key

مقالات ذات علاقة

On Key

كتب من المكتبة ذات علاقة