مناظرة بين الإسلام والنصرانية- الجزء الخامس

مناظرة أظهرت حقائق عن النصرانية يجهلها كثير من الناس . وانتهت باعلان القساوسة المناظرين دخولهم في الإسلام والتبرؤ من أفكار النصرانية المضللة.

حقيقة الكتاب المقدس ، وحقيته :

هذا . . . . ولقد تحدثنا في الأيام الخمسة السالفة عن (الكتاب المقدس) بعهديه ، القديم والجديد . . وأمطنا اللثام عن التناقض والتعارض الذي يعتري هذا (المصنف) من أوله إلى آخره .
إن هذا الكتاب مليء بأمور تتعارض مع (الهداية) التي هي الهدف الأول من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب .
ويكفي أن نلقي نظرات عابرة على ما جاء في ” سفر نشيد الأنشاد ” الذي يعتبر سفرًا غزليًا ، تتردد في فقراته عبارات من الأدب المكشوف العاري . . . فهو يصف خفايا جسد المرأة ، بأسلوب مسف فاحش إذ يقول- في (الإصحاح الثالث : 1- 5) .

” في الليل ، على فراشي ، طلبت من تحبه نفسي ، طلبته فما وجدته ، إني أقوم وأطوف في المدينة ، في الأسواق ، وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي ، طلبته فما وجدته ، وجدني الحرس الطائف في المدينة ، فقلت : أرأيتم من تحبه نفسي ، فما جاوزتهم إلا قليلًا حتى وجدت من تحبه نفسي ، فأمسكته ، ولم أرخه ، حتى أدخلته بيت أمي ، وحجرة من حبلت بي ، أحلفكن يا بنات أورشليم ، بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء ” . ويقول الإصحاح الرابع من هذا السفر : (1- 7) : ” ها أنت جميلة يا حبيبتي ، ها أنت جميلة ، عيناك حمامتان من تحت نقابك ، شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد ، أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل اللواتي كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم ، شفتاك كسلكة من القرمز ، وفمك حلو ، خدك كفلقة رمانة تحت نقابك ، عنقك كبرج داود المبني للأسلحة . . . ، ثدياك كحشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن ، إلى أن يفيح النهار ، وتنهزم الظلال أذهب إلى الجبل المر ، وإلى تل اللبان ، كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة ” .

ويقول الإصحاح السابع من السفر نفسه : (1- 11) : ” ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم ، دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع ، سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج ، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن ، ثدياك كحشفتين توأمي ظبية ، عنقك كبرج من عاج ، . . . ما أجملك ، وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات ، قامتك هذه شبيهة بالنخلة ، وثدياك بالعناقيد ، قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها ، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح ، وحنكك كأجود الخمر- لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين .
أنا لحبيبي ، وإلى اشتياقه ، تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ، ولنبت في القرى ، . . هناك أعطيك حبي ” .
أهذا كتاب دين وهداية . . . ؟
أهذا هو القصص الحق . . الذي يهدي إلى صراط مستقيم ؟
وإذا تركنا هذا الجانب الجنسي الطافح بالنزوة والشهوة إلى غيره من جوانب التناقض والتعارض والتضارب ، فإننا نجد ما لا يصدقه عقل ، ولا يقره منطق .
إن هذه التناقضات تؤكد شيئًا هامًا وخطيرًا ، هو نفي صفة الوحي عن هذه الأسفار ، القديم منها والجديد . . . !
وتعال معي ننظر صفات الله في الكتاب المقدس

الله يحزن ويندم : ” فحزن الرب أن عمل الإنسان في الأرض ، وتأسف في قلبه ، فقال الرب : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته ، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء . لأني حزنت أني عملتهم ” (سفر التكوين 6 : 6-8) .
الله يعزم على ألا يعود : ” وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ، ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت ” (سفر التكوين 8 : 21) .
فكأن الله – سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا – . . حزن أولا وتأسف لأنه خلق الإنسان . . . فأهلكه على عهد نوح . . . !
ثم عاد فندم مرة ثانية لأنه أهلكه . . . وقرر ألا يعود إلى ذلك مرة أخرى . . . !
وهكذا تعرض الأسفار المتناقضة ، صورة متناقضة لإله متناقض . . . !!

الله يتذكر عهده مع الناس عن طريق ” قوس قزح ” : ” وصنعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض ، فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض ، ويظهر القوس في السحاب إني أذكر ميثاقي الذي بيني ويينكم وبين كل نفس حية في كل جسد ، فلا تكون أيضا المياه طوفانًا لتهلك كل ذي جسد ، فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقًا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض ” (سفر التكوين 9 : 13- 16) .
وهكذا . . . هكذا وضع سفر التكوين يدنا على أسرار علمية جديدة لقوس قزح . . . إن الله جعل هذا القوس الذي يظهر في السماء بألوانه الزاهية في الأيام المطيرة ليذكره بميثاقه مع بني أدم ، حتى لا ينسى ، فيتكرر الطوفان الرهيب مرة أخرى . . !!
ومرة أخرى نستغفر الله ، ونتوب إليه ، ونقول : سبحانك هذا بهتان عظيم . . !

الله يغار من الإنسان :

” وكانت الأرض كلها لسانًا واحدا ، ولغة واحدة وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار ، وسكنوا هناك ، وقال بعضهم هلم نصنع لبنًا ونشويه شيا ، فكان لهم اللبن مكان الحجر ، وكان لهم الحمر مكان الطين ، وقالوا : هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء ، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلًا نتبدد على وجه الأرض فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما وقال الرب : هو ذا شعب واحد ، ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل ، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض ، فكفوا عن بنيان المدينة ، لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض ” (سفر التكوين 11 : 1-9) .
أسمعتم ؟ أقرأتم . . . . إن الله غار من خلقه حينما هموا ببناء مدينة وبرج!! فدمر عليهم وبلبل ألسنتهم !!
ولست أدري . . كيف تم بناء المدن الكبار ، والأبراج الضخمة ، وناطحات السحاب ألم يكن في هذا العمران الحديث الضخم ، ما يثير غيرة إله الكتاب المقدس!
الله يحرض على السرقة :

” ثم قال الرب لموسى ضربة واحدة أيضا أجلب على فرعون وعلى مصر ، بعد ذلك يطلقكم من هنا ، وعندما يطلقكم يطردكم طردًا من هنا بالتمام ، تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه ، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة فضة ، وأمتعة ذهب ، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين ” (سفر الخروج 11 : 1- 2) .
” وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى ، طلبوا من المصريين أمتعة فضة ، وأمتعة ذهب ، وثيابا ، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم . فسلبوا المصريين ” (سفر الخروج 12 : 35- 36) .
فالرب- عند كتبة هذه الأسفار ورواة هذه الأخبار- هو الذي حرض بني إسرائيل على السرقة ، وعلمهم كيف يسطون فيسرقون ذهب المصريين ، وفضتهم ، وأمتعتهم ، قبل خروجهم من مصر مع موسى !!!
الله يصارع يعقوب :

” بقى يعقوب وحده ، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر ، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه ، وقال : أطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال : لا أطلقك إن لم تباركني فقال له : ما اسمك ؟ فقال : يعقوب ، فقال : لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل ، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت . وسأل يعقوب وقال : أخبرني باسمك ، فقال : لماذا تسأل عن اسمي وباركه هناك .
فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلا لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي ” (سفر التكوين 32 : 24- 30) .
يدعي كتبة الأسفار- كما يؤكد هذا النص – أن يعقوب صارع الله حتى غلبه ، ولم يطلقه من قبضته إلا بعد أن باركه . . . !
وإذا كانت هذه هي الصورة التي يرسمها خيال كتبة الأسفار لإلههم ومعبودهم . . . !
فإن كتبة الأسفار يقدمون صورا بلهاء شوهاء لأنبياء الله ورسله!!

صورة شوهاء لأنبياء الله ورسله في العهد القديم !!
– إبراهيم الرسول الخليل تقول أسفار العهد القديم عن إبراهيم رسول الله وخليله :
” وحدث جوع في الأرض ، فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك ، لأن الجوع في الأرض كان شديدًا . وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته ، فيقتلونني ويستبقونك ، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك .
فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًا ، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ، فصنع إلى أبرام خيرًا بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء ، وأتن وجمال . فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام ، فدعا فرعون أبرام وقال : ما هذا الذي صنعت بي ، لماذا لم تخبرني أنها امرأتك ، لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي ، والآن هو ذا امرأتك ، خذها واذهب ، فأوصى عليه فرعون رجالا فشيعوه هو وامرأته وكل ما كان له ” (سفر التكوين 12 : 14- 20) .

أفيرضى أحد من الناس له مروءة وخلق ، أو بقية من مروءة وخلق ، أن يتجر في جمال امرأته وحسنها! ؟
فكيف بنبي الله ، ووليه ، ورسوله وخليله إبراهيم – عليه السلام – ؟ !!
لوط جاء عنه في سفر التكوين : ” وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة هو وابنتاه ، وقالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ، هلم نسقي أبانا خمرًا ، ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلًا ، فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها ، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمرًا الليلة أيضا فادخلي واضطجعي معه ، فتحيي من أبينا نسلًا ، فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة أيضا ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها فحبلت ابنتا لوط من أبيهما ” (سفر التكوين 19 : 30- 36) .
وإنه- على الرغم- مما تشتمل عليه هذه الأسطورة من كذب وافتراء ومستحيل ، غير أنني أسأل :
– ما هي الحكمة ، والعظة ، التي يمكن أن يستفيدها قراء كتاب مقدس . . . من قراءة هذه القصة ؟

– وإذا كان الأنبياء بهذه المثابة ، وهم حملة كلمة الله الهادية ، فماذا بقي للفساق والسفهاء ؟
كيف يخاطبون الله :
وإذا رحنا نقلب صفحات هذه الأسفار لنتعرف منها على آداب الدعاء والضراعة . . فإننا نجد عجبًا!!
إن الخطاب مع الله يتسم بالجرأة والاتهام ، واقرأ معي هذا النص الواحد من عشرات النصوص :
في سفر الملوك الأول أن إيليا (إلياس) النبي خاطب الله- يقول السفر :
” وصرخ إلى الرب وقال : أيها الرب إلهي ، أأيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها أسأت بأماتتك ابنها ” (17 : 20) .

حديث عن الإسلام

والآن- بعد أن رأينا النصرانية ، واضحة المعالم بينة الملامح- نتحدث عن الإسلام . . . !
وإن كنت أقرر سلفًا أن الحديث عن الإسلام لا تستوعبه محاضرة مرتجلة ولا عدة محاضرات ، ولا يفي بعرضه حديث عابر ولا عدة أحاديث . . . !
لأن الإسلام أكبر مما يتصور كثير من الناس!
الإسلام كيان ثقافي هائل . . ومدرسة للعلوم والمعارف لا نظير لها . . . !
ولقد ثبت- تاريخيًا وحضاريا- أنه لم تقم دراسات بالكثرة والوفرة التي قامت حول القرآن الكريم ، كتاب الله ، وبيان الإسلام . . . !
كذلك فإنه قد انبثق من العلم القرآني علوم شتى ومعارف لا تنتهي كثرة . . . !
يقول الله تعالى { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }{ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً }{ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } . (1) .
وإذا كانت الكتب فيها صحف!
فإن صحف هذا الكتاب المبارك فيها كتب!
إن الصفحة الواحدة من القرآن الكريم تشتمل حقا على كتب قيمة!
وهذا ما شاهدناه ورأيناه . . . وشاهده معنا ورآه مؤرخو الفكر وراصدو الحضارة .
_________
(1) سورة البينة الآيات 1- 3 .

لقد قامت علوم شتى لخدمة ذلك الكتاب المجيد : مثل : علوم القرآن ، والتفسير ، واللغة ، والحديث ، والفقه ، والسير والمغازي والرجال . . وغيرها ، وغيرها كثير . . .
ولقد ألفت كتب في مختلف فروع الثقافة تهدف إلى نشر هداية ذلك الكتاب ، وإشاعة ثقافته في الخافقين ، ولم يكن العرب وحدهم هم الذين قاموا بهذا العمل المشكور المأجور ، بل لقد ساهم فيه ، وأعان عليه جمهرة كبيرة من العلماء والفقهاء من غير العرب . .
فهؤلاء ، أبو حنيفة ، والبخاري ، والطبري .
وأولئك سيبويه ، والزمخشري ، والجرجاني .
مما يجعلنا نؤكد أن الفتح الإسلامي لم يكن فتحًا دينيا فقط ، إنما كان فتح دين ولغة وتمدن وعمران وحضارة وثقافة .
وإن القرآن الكريم ليس كتاب عقيدة ومواعظ فحسب وإنما هو كتاب علم وثقافة وحضارة وتشريع وسياسة وأخلاق . . .
ولقد كان الفتح الحضاري الإسلامي سريعًا في انتشاره وانتصاره ، مما جعل راصدي الحضارة يعجزون حتى يوم الناس هذا عن تفسير هذا التحرك الإسلامي الهائل . .
ويعجزون أيضا عن العثور على إجابة للسؤال القائل : – كيف استطاع محمد صلى الله عليه وسلم في ثمانية أعوام أو زهائها أن يفتح مليون كيلومتر مربع!!

– كيف حدث هذا . . . في عصر ، مواصلاته محددة ، وطرق القوافل غير معبدة!
– كيف تحقق هذا الفتح المبين . . بأقل خسارة بشرية إذ لم يتعد عدد القتلى (1002) من شهداء المسلمين ، وصرعى الكفار!!
إن الإجابة على هذه الأسئلة أمر متعسر أو متعذر إذا أخضعنا الإجابة للأساليب البشرية ، وللمعايير التي تواضع عليها بنو الإنسان!
أما إذا راعينا في الإجابة (سنَّة الله) وعمل هذه السنَّة في المجتمعات والأمم ، فإننا نجد الإجابة سهلة وميسرة!!

الإسلام دين الأنبياء جميعا إن الإسلام هو دين الله ، الذي لا دين له سواه . . ولقد تكفل سبحانه وتعالى بنصره وتمكينه وإظهاره على الدين كله!
لكن : أي دين هو ذلك الإسلام ، وهل هناك ديانات أخرى تزاحمه في علاقتها بالله ؟ أقول في الإجابة :
إن الله سبحانه وتعالى ، لم ينزل ديانات مختلفة ، وإنما أنزل على عباده المرسلين دينًا واحدًا ، وهو الإسلام قال تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . (1) .
ولقد جاء بهذا الدين الواحد جميع رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام .
جاء به نوح – عليه السلام – :
قال تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ }{ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . (2) .
وجاء به إبراهيم – عليه السلام – :
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 19.
(2) سورة يونس ، الآيتان 71 -72.

قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . سورة (1) .
وجاء به يعقوب – عليه السلام – :
_________
(1) البقرة ، الآيات 127 -132.

قال تعالى { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . (1) . .
وجاء به لوط – عليه السلام – :
قال تعالى { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ }{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ }{ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ }{ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ }{ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . (2) . .
وجاء به يوسف عليه السلام :
قال تعالى { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (3) . .
وجاء به موسى عليه السلام :
_________
(1) سورة البقرة ، الآية 133.
(2) سورة الذاريات ، الآيات 31- 36.
(3) سورة يوسف ، آية 101.

قال تعالى { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (1) . .
وهو دين قوم موسى من بني إسرائيل :
قال تعالى { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (2) .
وهو دين السحرة الذين آمنوا بموسى :
_________
(1) سورة يونس ، 84.
(2) سورة يونس ، آية 90.

قال تعالى { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ }{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }{ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }{ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ }{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (1) . .
وهو دين أنبياء بني إسرائيل :
قال تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } (2) . .
وهو دين سليمان عليه السلام :
قال تعالى { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }{ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (3) . .
_________
(1) سورة الأعراف ، الآيات 120- 126.
(2) سورة المائدة ، آية 44.
(3) سورة النمل ، الآيتان 30- 31.

وقال تعالى { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (1) . .
وقال تعالى { فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } . (2) . .
وقال تعالى { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . (3) . .
وهو دين المسيح عليه السلام وحواررييه :
قال تعالى { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (4) . .
وقال تعالى { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } (5) .
وهو دين المهتدين من الجن :
قال تعالى { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا }{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } (6) . .
_________
(1) سورة النمل ، آية 38.
(2) سورة النمل ، آية 42.
(3) سورة النمل ، آية 44.
(4) سورة عمران ، آية 52.
(5) سورة المائدة ، آية 111.
(6) سورة الجن ، الآيتان 14-15.

وهو دين المتمسكين بالحق من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ }{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (1) . .
ثم هو دين النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم :
وقال تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (2) . .
_________
(1) سورة القصص ، الآيتان 52- 53.
(2) سورة آل عمران ، الآيتان 19-20.

وقال تعالى { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (1) . .
وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) . .
بل إن القرآن الكريم ليقرر في وضوح كامل أن الإسلام دين أهل السماوات والأرض .
قال تعالى { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (3) . .
وإلى هذا الدين وحده ، وجه النبي الخاتم رسله ورسائله إلى الملوك وعظماء الملل وأشهدهم على إسلامه وإسلام من معه .
قال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (4) . .
_________
(1) سورة غافر ، آية 66.
(2) سورة المائدة ، آية 3.
(3) سورة آل عمران ، آية 83.
(4) سورة آل عمران ، آية 64.

النبي الخاتم
ولقد أراد الله سبحانه وتعالى لدينه أن يكمل ، ولنعمته أن تتم ، فأرسل النبي الخاتم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وجعل شريعته عامة وصالحة لكل زمان ومكان .
والحديث عن (النبي الخاتم) وعن (عموم رسالته) يحتاج منا إلى وقفة قد تطول ، وقد تقصر!
النبي الخاتم :
إن الله سبحانه وتعالى الذي أراد لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون عامة وتامة وخاتمة ، وشاملة وكاملة هو الذي قيض لها عونًا لم يكن لغيرها من الرسالات ، وأمدها بمدد مكنها من الخلود والانتشار . . وفي تاريخ الدعوة الإسلامية الخاتمة أمور ينبغي أن يهتم بها الدارسون والباحثون :
– فمن هذه الأمور : (الدقة في تسجيل حياة الرسول وهديه) .
إن الاهتمام البالغ برصد أعمال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله ليس له نظير في رصد تحركات أي نبي أو رسول . . حتى الأنبياء الأقرب عهدًا والذين تدعي جماهير كبيرة من البشر الإيمان بهم ، واتباعهم ، كموسى ، وعيسى . . . !
إنه ليس لدينا -على الإطلاق- وثيقة كاملة تتحدث بوضوح عن (حياة المسيح عليه السلام) وهو . . . خاتم الأنبياء من بني إسرائيل . . فضلًا عن غيره من الأنبياء والرسل .

والكتابات التي بين أيدينا . . تعطينا صورة -لا أقول : واضحة الملامح- عن الأيام الخمسين الأخيرة من حياة المسيح !!
يقول القس الدكتور شارلس اندرسن اسكات في مقال له في دائرة المعارف البريطانية : ” ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة ، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض ، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يومًا ” (1) . .
وهذا الذي قرره ذلك القس ، ونشرته دائرة المعارف البريطانية ، يتعارض مع ما كان سائدًا في العالم المسيحي حتى عهد قريب . . .
لقد كان السائد أن (أسفار العهد الجديد) تتضمن أخبار السنوات الثلاث الأخيرة من سيرة المسيح وأخباره!!
وهذا الذي قرره ويقرره ، علماء المسيحية . . يخالف تمامًا ما سجله ونقله الرواة عن (حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم) فإنهم قدموا لنا سجلًّا كاملًا وأمينًا عن دقائق وحقائق حياته . . . !
لقد رصد صحابته حياته . . منذ البدء وإلى النهاية ، وكتبوها بكل عناية ، في دواوين السنة وكتب المغازي والسير . . .
_________
(1) ط14 ، جـ 13 ، ص171.

إن الكتب التي روت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحداثها كتب كثيرة . . . فمنها : (كتب السير) وهذه رصدت حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرخت لها . و (كتب المغازي) وهذه عرّفت بغزواته ، وبعوثه ، وسراياه ، والأخلاق التي كان يتحلى بها في حروبه ، وكيف كان يتعامل مع أعداء دعوته إن أمكنه الله منهم .
و(كتب الهدي) مثل . (زاد المعاد ، في هدي ، خير العباد ” وهذه الكتب تنقل لنا أسلوب النبي وهديه ، في عبادته ، ونسكه ، وزواجه ، ومعاشرته لأهله ، ومعاملاته مع الناس .
و(كتب الشمائل) وهي تحدثنا عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخَلْقية والخُلُقية ، أي : الجسمية ، والعقلية ، والروحية .
و(كتب الخصائص) وهي تتضمن ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من ميزات لا يشاركه فيها أحد .
و(كتب الأذكار ، وأعمال اليوم والليلة) وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه ويسبحه ويحمده ويمجده ويدعوه على كل حال ، وفي كل مجال .

ثم ، هناك (الصحاح ، والسنن ، والمسانيد) . . . وأسجل هنا ، بكل صدق وحق ، أن أرقى كتب المسيحيين سندًا ، وأعلاها رواية ، لا تصل إلى الدرجة الرابعة أو الثالثة . . . من كتب السنن والآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !! هذا- فضلًا- على ما رواه القرآن وحكاه ، عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه- كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وحينما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت كلمتها المشهورة : (كان خلقه القرآن) . ؟
إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ، والعناية الفائقة بتسجيل جميع أقواله وأفعاله وتقريراته ، كل ذلك يشير إلى أنه خاتم النبيين والمرسلين!!

دَعوَة المَسيح ، دَعوَة خاصَّة
لقد كانت دعوة المسيح خاصة ببني إسرائيل ، وقد صرح بأنه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة : ” لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ” (متى 15 : 24) .
ولهذا اقتصرت رسالته على قراهم وأرضهم والمنتسبين إليهم ، ولما جاءته امرأة كنعانية تستعطفه ، وتطلب إليه أن يدعو لابنتها المريضة ، قال لها العبارات التي نقلناها آنفًا :
” ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب ” (متى 15 : 26) .

وفي القرآن الكريم ، آيات تدل على أن عيسى عليه السلام كان رسولًا إلى بني إسرائيل ، منها قوله تعالى { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ }{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }{ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }{ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (1) . .
وقوله تعالى { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } (2) . .
وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } (3) . .
– ومن الأمور التي جعلت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة : (حفظ الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم من التغيير والتبديل والتحريف) .
_________
(1) سورة آل عمران ، الآيات 45-51.
(2) سورة الصف ، 14.
(3) سورة الصف ، آية14.

والقرآن الكريم بهذه الخاصية الفريدة يخالف غيره من الكتب المنزلة ، حتى أقربها عهدًا (كالإنجيل) .
وقد أحسن العالم المستشرق المهتدي ( آيتين دينيه ) الفرنسي ، في وصف هذه الأناجيل التي يطلق عليها (العهد الجديد) وتحديد قيمتها العلمية والتاريخية ، يقول بكل تدقيق وتحقيق :
” أما أن الله سبحانه قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه ، فالذي لا شك فيه ، أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر ، ولم يبق له أثر أو أنه أبيد ” (1) . .
أيها الناس . . . . اسمحوا لي أن أقول لكم بصراحة : إنه من السهل أن يذهب من يريد إلى المطبعة ، ومعه نسخة محرفة من الإنجيل ، فيطبعها ثم ينشرها في الأسواق .
إن أحدًا لن يثور على هذا العمل . . . بل ستتلقاها الدوائر المسيحية بقبول ، وستصبح بعد قليل مرجعًا تستقي منه العقيدة المسيحية . . . !
إن هذا الكلام الذي أقوله . . . ليس وليد الخيال المجنح . . . بل هو ما حدث فعلًا . . . واقرأوا هذه القصة- . . .
_________
(1) أضواء على المسيحية للأستاذ متولي يوسف شلبي ، ص52 ، 53 (الدار الكويتية).

لقد قامت (دار النشر اليهودية) بالقدس بإصدار طبعة محرفة لأسفار العهد الجديد عام 1970 م ، وقامت بترجمتها بمختلف لغات العالم ، ومن بينها اللغة الإنجليزية ، التي كانت تقوم على توزيعها ، وكالة (ريد) بلندن ، وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة المحرفة لأسفار العهد الجديد ما يلي :
” إن هذه الترجمة اليهودية والمعتمدة للعهد الجديد يمكن وصفها بأنها العهد الجديد خاليًا من معاداة السامية-
إن التعديلات التي أدخلت هنا على ترجمة عام 1611 (الإنجليزية المعتمدة إلى الآن) يمكن إثباتها من المصادر الأولى ، وقد اختيرت جميعها لهدف واحد هو : التخلص- بقدر ما تسمح به الحقيقة- مما تحتويه تلك الترجمة النكدة ، والتي تهدف إلى بذر العداوة بين المسيحيين واليهود .
إن تعاليم العهد الجديد الحقيقي تتضمن المحبة بدلا من تلك الكراهية القاتلة ، وعلى هذا الأساس ، فإن هذه الترجمة اليهودية يحق لنا أن نقول بأنها الترجمة المسيحية الصادقة ، وفيما عدا ذلك من تعديلات ، فإن نصوص هذه الترجمة تبقى كما هي في ترجمة عام 1611 م .
إن هذه الترجمة تمثل إعلانًا تأخر كثيرًا عن موعده للتقارب بين المسيحية واليهودية ” .
سبحان الله . . .

لقد قام اليهود بتحريف العهد الجديد -أسفار المسيحية- لتنقيتها مما يسيء إليهم حتى تسود المحبة بينهم وبين المسيحيين . . .
فماذا كان رد الفعل عند المسيحيين إزاء هذا العمل الخطير ؟
لا شيء . . . أيها السادة . . . لا شيء!
لقد صمت المسيحيون تمامًا . . . وكأن الأمر لا يعنيهم في قليل ولا كثير . . . !
فلم يتحرك واحد منهم على الإطلاق . . . سواء من الكنسيين ، أو الكتاب والمفكرين! بل إن الذي نبه إلى ذلك العبث اليهودي بالأسفار المسيحية إنما هم الكتاب الإسلاميون!
لقد أثاروا موضوع تحريف الأناجيل ، وبقية أسفار العهد الجديد في مؤتمرات إسلامية مسيحية عقدت في قرطبة وطرابلس والقاهرة . . وكان موقف رجال الدين المسيحي هو الصمت التام ، والاكتفاء بالنظر في وجوه العلماء المسلمين وفي أيديهم النسخة المحرفة ، تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . . . !
ألا . . . شتان ما بين موقف المسيحيين من كتبهم المقدسة . . . وبين موقف المسلمين من القرآن الكريم .

أما القرآن الكريم ، فشأنه يختلف عن شأن جميع الكتب السماوية كل الاختلاف ، فقد تكفل الله بحفظه وسلامته من كل تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقص ، قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1) . .
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (2) . .
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (3) . .
وقد اتفقت كلمة المستشرقين ، وعلماء الغرب المحققين ، على أن القرآن الكريم محفوظ في السطور والصدور ، وأنه لم تحذف منه كلمة ، ولم تزد عليه كلمة .
ومن هؤلاء ( السير وليم ميور ) في كتابه : (حياة محمد ) وقد عرف ( وليم ) هذا بتحامله على الإسلام ، وعلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قال :
_________
(1) سورة الحجر ، آية 9.
(2) فصلت ، الآيتان 41-42.
(3) سورة القيامة ، الآيات 16-19.

” لم يمض على وفاة محمد ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة ، وقامت طوائف ، وقد ذهب عثمان ضحية هذه الفتن ، ولا تزال هذه الخلافات قائمة ، ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد ، إذ أن اعتماد هذه الطوائف جميعًا على هذا الكتاب تلاوة ، برهان ساطع على أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، هو الصحيفة التي أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها ، فلعله هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصه محفوظًا من التحريف طيلة ألف ومائتي سنة ” .
ومنهم ( وهيري ) في تفسيره للقرآن قال :
” إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق وأكثرها صحة وأصالة ” (1) . .
ومنهم ( يامر ) مترجم القرآن المعروف إلى اللغة الإنجليزية ، جاء في كتابه :
” لم يزل نص القرآن الذي رتبه عثمان على الصحيفة المتلقاة بالقبول ، المعتمد عليها عند المسلمين ”
ومنهم ( بن بول ) الذي يقول :
إن أكبر ما يمتاز به القرآن أنه لم يتطرق شك إلى أصالته ، إن كل حرف نقرأه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير منذ ثلاثة عشر قرنًا ” .
_________
(1) جـ1 ، ص349.

فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، المكتوبة بكل أمانة وتحقيق ، والقرآن الكريم الذي تواطأت الصدور والسطور على حفظه ونقله ، كل أولئك يعتبر أمارة صادقة على حتم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للنبوات!
إن الزمان والمكان . . . وكل الظروف والملابسات . . إن كل أولئك كان مهيأ لاستقبال آخر نبوة!
لقد كانت نبوة فاتحة لعصر العلم ، والعقل والطموح الإنساني لاكتشاف الكون ، واستكناه أسراره!
لهذا كانت رسالة دافعة لا معوقة . . . كانت رسالة تفسح مجال العقل إلى منتهاه ، وتدفع العلم إلى مداه ، وترفع الإنسان إلى مدارج رشده وهداه تقواه! . ولقد ذكر القرآن الكريم -بأوضح بيان وأجلى برهان- أن محمدًا خاتم النبيين .
قال تعالى { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (1) . .
كذلك رويت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى .
قال- صلى الله عليه وسلم – : « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي ، خلف نبي ، وأنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء » (رواه البخاري ومسلم ) .
_________
(1) سورة الأحزاب ، آية 40.

وقال : « إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين » (رواه البخاري ومسلم ) .
وقال : « فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون » (رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ) .
وقال : « إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي » (رواه أحمد والترمذي ) .
وقال : « أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي » (رواه البخاري ومسلم ) .
ولقد صرح القرآن الكريم بأن هذا الدين قد بلغ طوره الأخير من الكمال والوفاء بحاجات البشر ، والصلاحية للبقاء والاستمرار فقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) . .
_________
(1) سورة المائدة ، آية 3.

وقد نزلت هذه الآية يوم عرفة ، في حجة الوداع ، سنة عشر للهجرة ، ولم ينزل بعدها -كما تقول أكثر الآثار- حلال ولا حرام ، ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا اليوم إلا إحدى وثمانين ليلة .
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الوداع التي استمع إليها أكثر من مائة ألف إنسان ، وحفظوها :
« أيها الناس ، إنه لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، ألا فاعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، تدخلوا جنة ربكم » (أخرجه ابن جرير تهذيب الآثار ، وابن عساكر ) (1) . .
_________
(1) كنز العمال ، جـ5 ، ص295 ، ط . حلب.

عموم الرسالة المحمدية
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم ، قال : « فُضِّلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أرسلت إلى الناس كافة ، وختم بي النبيون » .
وقال صلى الله عليه وسلم :
« كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس أجمعين » .
وقال الله سبحانه وتعالى ، في القرآن الكريم { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (1) .
وقال عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } (2) .
ومن العجيب الغريب المريب . . أن بعض النصارى يذهبون إلى القول بأن محمدًا نبي للعرب خاصة . . .
يقولون هذا ، ويرددونه ، ويتشدقون به ، مع وفرة النصوص الكريمة في القرآن والسنة التي تؤكد عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين .
بل إن في كثير من نصوص القرآن الكريم دعوة موجهة إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى . . وغيرهم من أهل النحل والملل المختلفة في كل البقاع والأصقاع!
_________
(1) سورة الأعراف ، آية 158 .
(2) سورة سبأ ، آية 28 .

وهذه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسله ، وجهاده ، لليهود والنصارى وللمجوس وللمشركين -من العرب ومن غيرهم- شاهد صدق على ما نقول!
وفي القرآن الكريم . . .
في مواضع كثيرة منه . . ذكر وتنديد بكفر الكافرين من اليهود والنصارى ، وأمر بقتال الظالمين والطغاة منهم ، ودعوة لهم إلى الدخول في الإسلام دين الله الحق . .

قال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ

تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (1) .
وقال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } (2) .
_________
(1) سورة آل عمران ، الآيات 64 – 72 .
(2) سورة آل عمران ، الآيات 98- 100 .

وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } (1) .
وقال تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } (2) .
_________
(1) سورة النساء ، آية 47 .
(2) سورة النساء ، الآيتان 171- 172 .

وقال تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ }{ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }{ يَا

أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (1) .
وقال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } (2) .
وقال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (3) .
. وقال تعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (4) . 50 قد يقول قائل : أليس هناك تناقض بين هذه الآيات وبين آيات أخرى تقول :
_________
(1) سورة المائدة ، الآيات 15 – 19 .
(2) سورة المائدة ، آية 59 .
(3) سورة المائدة ، آية 68 .
(4) سورة المائدة ، آية 77 .

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (1) .
{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (2) .
{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (3) .
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } (4) .
ونقول في الإجابة :
ليس في القرآن الكريم آية واحدة تدل أو تشير إلى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مختصة بالعرب وحدهم!!
وإنما فيه إثبات رسالته إليهم ، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش!! وليس بين هذين تناقض!!
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 164 .
(2) يوسف ، آية 2 .
(3) سورة الشعراء ، الآيات 192 – 195 .
(4) سورة القصص ، 46 .

وكذلك ليس هناك تناقض أي تناقض ، بين أن يوجه القرآن الخطاب إلى أهل الكتاب -كما أسلفنا- وبين أن يوجهه إلى بني إسرائيل ، أو بني آدم ، كما في قوله تعالى { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } (1) .
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } (2) .
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (3) .
{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } (4) .
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (5) .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 40 .
(2) سورة البقرة ، الآيات 47-122 .
(3) سورة الأعراف ، آية 26 .
(4) سورة الأعراف ، آية 27 .
(5) سورة الأعراف ، 31 .

{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) .
فليس التخصيص في توجيه الدعوة الإسلامية ، إلى العرب أو بني إسرائيل بمناف لعموم الرسالة إلى الثقلين!
ولهذا فإن البشرية كلها -بل ، والجن كذلك- مخاطبون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومسئولون عن دعوته وعن مدى استجابتهم واتباعهم لها .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب » .
وأولئك البقايا الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، كانوا متمسكين بدين المسيح الحق قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) سورة الأعراف ، الآيتان 35 ، 36 .

أما منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن به فهو كافر من أهل النار ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار » .
ثم إنه من المعروف أن بني إسرائيل كانوا أكثر الأمم أنبياء . . بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون . . . حتى قيل : إِنهم بلغوا ألف نبي . . كلهم يلتزمون بشريعة التوراة ، يأمرون بها ، ويدعون إليها ، ولا يغيرون منها شيئًا . . . ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده ، لم يمنع من إرسال المسيح إلى بني إسرائيل .
فلماذا يرفضون أن يكون محمد رسولًا إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهم منذ المسيح لم يأتهم رسول من الله ، كما قال تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (1) .
_________
(1) سورة المائدة ، آية 19 .

الصادق الأمين

فإن قال قائل : إن الشكوك تراودني في صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، في ادعائه للنبوة .
قلنا له :
أولًا : إن الذين يقدحون في محمد صلى الله عليه وسلم ، عليهم أن يعلموا أن القدح فيه قدح في غيره من الأنبياء ، وأن الشك فيه شك في غيره من الأنبياء ، وأن تبرئة غيره من الأنبياء هو تبرئة له من باب أولى . إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من سيرة غيره من الأنبياء . . وكذلك شريعته ، وأمته ، والكتاب الذي أنزل إليه من ربه ، ومعجزاته وهديه!! فمن كذب به صلى الله عليه وسلم وتشكك فيه . . فتكذيبه لغيره ، وشكه فيه أولى . . . !
ومن آمن بغيره من الأنبياء ، ونادى باتباعهم ، فإن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه أولى ، وأهدى!
ثانيًا : إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أظهر دين الرسل قبله ، وصدقهم ، ونوه بذكرهم وتعظيمهم ، حتى يحق لنا أن نقول : إن من آمن بالأنبياء والرسل مثل موسى والمسيح وغيرهما ، إنما آمنوا بهم عن طريقه صلى الله عليه وسلم . بهم الكفار ، ويحق لنا أن نقول : إن كثيرًا من الأمم ، لولا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما قصه عليهم من القصص الحق في أخبارهم وآثارهم ، لم يؤمنوا بهم!!

(ولولا أن القرآن الكريم -ذكر ما ذكر- عن ولادة المسيح وآية الله فيه وفي أمه ، لاعتبر الناس هذا الموضوع أسطورة قديمة . . . ) وهذا التعبير ، قاله أحد الأدباء المسيحيين !!
ثالثًا : إن في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت شهادة أهل الكتاب له ، وإيمان كثير منهم به ، كما قال تعالى { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (1) .
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2) .
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (3) .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 146 .
(2) سورة البقرة ، آية 146 .
(3) سورة الأنعام ، الآيتان 19 ، 20 .

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (1) . { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ }{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (2) .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } (3) .
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 199 .
(2) سورة الأحقاف ، الآيتان 9 ، 10 .
(3) سورة الرعد ، آية 43 .

{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (1) .
وهذه الآيات القرآنية تشير إلى شواهد كثيرة موجودة في كتب القوم ، من يهود أو نصارى ، وقد نقلنا منها فيما سلف من أحاديث ، الشيء الكثير .
فإن قال قائل : إننا لا نقر ولا نعترف بأن في الكتب المقدسة كأسفار العهدين القديم والجديد ، إشارات أو بشارات بمحمد (صلى الله عليه وسلم) .
قلنا لهم : يترتب على قولكم هذا أمران :
_________
(1) سورة الفتح ، آية 29 .

الأمر الأول : ألا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أي كتاب ، يهودي أو نصراني ، بحجة أن (القرآن) قال (مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل) وهو غير مكتوب عندهم لا في التوراة ولا في الإنجيل . . . !
لكن ثبت -تاريخيًا وواقعيًا- غير هذا ، بل وضد هذا ، فإن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه من اليهود والنصارى ، في القديم والحديث ، أعداد هائلة لا تكاد تنحصر ، وهم لم يؤمنوا به إِلا بعد أن قرأوا هذه الآيات ، ووقفوا من كتبهم على هذه البشارات!!
وأمر ثان : هو : أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ظهر وقهر أهل الكتاب من يهود ونصارى ، وسبى من سبى منهم ، وقتل من قتل من رجالهم ، وأخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . . .
فلا بد أن يرد ذكره ، وذكر الأحداث العظام التي جرت عليهم في أيامه . . . !
وإذا كان كاذبًا أو دعيًا -وحاشاه- فلا بد أن يرد في كتبهم التحذير من اتباعه . . !
ومعلوم أن أهل الكتاب يقولون قولين :
القول الأول : إنه ليس موجودًا في كتبنا . . .
والقول الثاني : إنه موجود ومذكور بالمدح والثناء .
وليس هناك قول ثالث ، يدعي صاحبه أن اسمه أو صفته مذكورة في هذه الكتب بالذم والتحذير . . .

ولو كان موجودًا عندهم بالذم والتحذير ، لكان هذا من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته ، أو يواجهون به أتباعه بعد مماته ، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم . . .
فإنه من المعلوم أن كثيرًا من أهل الكتاب -كانوا ، وما زالوا- يبغضونه (صلى الله عليه وسلم) ويضمرون ويظهرون له من العداوة والتكذيب الشيء الكثير . . . مما يدفعهم إلى افتراء أمور خيالية وهمية ونسبتها إليه . . . حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين (الله أكبر) بأن (أكبر) هذا صنم ، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بتعظيمه وعبادته !!
إن قومًا وصل بهم الافتراء والكذب إلى هذه الغاية . . . كان يمكنهم أن يظهروا ما في كتبهم من تكذيبه والتحذير منه ، لكنهم لم يفعلوا لأن كتبهم خالية من هذا الادعاء!!
رابعًا : إن من ادعى النبوة -وكان صادقًا- فهو من أفضل خلق الله تعالى ، وأكملهم في العلم والدين . . . إذ لا شك أن رسل الله وأنبياءه هم أفضل الناس ، وأعدل الناس ، وأبر الناس ، وأهدى الناس . . .
وإن كان بعضهم أفضل من بعض . . .

كما قال تعالى عن الرسل { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } (1) .
وكما قال سبحانه عن الأنبياء { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } (2) .
أما من ادعى النبوة -وكان كاذبًا- فهو من أكفر خلق الله وأفجرهم وشرهم ، كما قال تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (3) .
وقال تعالى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ }{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
وقال تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } (5) .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 253 .
(2) سورة الإسراء ، آية 55 .
(3) سورة الأنعام ، آية 93 .
(4) سورة الزمر ، آية 32-34 .
(5) سورة الزمر ، آية 60 .

فالكذب أصل الشر ، وأعظم الكذب ما كان كذبًا على الله عز وجل . . .
والصدق أصل الخير ، وأعظمه الصدق في التبليغ عن الله تبارك وتعالى . .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا » .
وهذا المعنى يعرفه العقلاء من بني الإنسان ، ولهذا ، فإنه ينبغي لنا أن ننقل هذه المناقشة الواعية الدقيقة التي تمت بين ( هِرْقَل ) وبين ( أبي سفيان ) وهي مناقشة تنم عن فهم ، وعلم ، وعقل ، اتسم بها ( هرقل ) . . . !

كان ( هرقل ) هذا . . . ملكًا على النصارى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، سأل عن عشرة أمور كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « حدثني أبو سفيان بن حرب من فِيْه إلى فيَّ ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة ، قال : فبينا أنا بالشام ، إِذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، قال : وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل .
فقال هرقل : هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟
قالوا : نعم .
قال : فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه .
قال : أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟
قال أبو سفيان : قلت أنا .
فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه ، فقال : قل لهم : إني سائل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه .
قال : فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه .
ثم قال لترجمانه :
سله : كيف حسبه فيكم ؟
قال : قلت : هو فينا ذو حسب .

قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟
قلت : لا .
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قلت : لا .
قال : ومن اتبعه ؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟
قلت : بل ضعفاؤهم .
قال : أيزيدون أم ينقصون ؟
قلت : لا ، بل يزيدون ؟
قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟
قال : قلت : لا .
قال : فهل قاتلتموه ؟
قلت : نعم .
قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟
قال : قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ونصيب منه ؟
قال : فهل يغدر ؟
قلت : لا ، ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها .
قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه .
قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟
قال : قلت : لا .
قال : ماذا يأمركم ؟
قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة .
قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها .
وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه من ملك ، قلت : رجل يطلب ملك أبيه .

وسألتك : عن أتباعه ، أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل .
وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت : أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله . .
وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟
فزعمت : أن لا ، فكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب .
وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .
وسألتك : هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالًا ، ينال منكم ، وتنالون منه ، وكذلك الرسل لا تغدر .
وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت : أن لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد قبله قلت : رجل ائتم بقول قيل قبله .
ثم سألتك : بم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف .
قال : إِن يكن ما تقول فيه حقًّا : إنه لنبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي .

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإذا فيه : ” بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين -الفلاحين ، والعامة- و { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1) . »
وفي رواية : فماذا يأمركم به ؟
قال : يأمرنا أن نعبد الله وحده ، ولا نشرك به شيئًا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، فقال : هذه صفة نبي .
خامسًا : نزول القرآن الكريم عليه ، مع أنه (أمّيّ) لم يذهب إلى مدرسة ، ولم يجلس إلى معلم ، ولم يهاجر في طلب علم .
قال تعالى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } (2) .
_________
(1) سورة آل عمران ، آية 64 .
(2) سورة العنكبوت ، آية 48 .

وقال تعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } (1) .
وتأملوا -إن شئتم- قوله تعالى { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ } .
وهذا العمر الذي لبثه فيهم ، والذي بلغ أربعين عامًا!!
لم يؤثر عنه في خلالها علم ، ولا شعر ، ولا بلاغة ، ولا فصاحة . . . !
فلما بلغ الأربعين تحدث . . . وتحدث كثيرًا بالعلم النافع ، والهدي القويم ، والخير العميم . . . !
وتحول (الأميُّ) إلى معلم . . . لا معلم مدرسة أو منطقة أو مدينة أو قبيلة أو دولة . . . وليس معلم زمان واحد ، أو جيل فريد . . . !
وإنما أصبح معلمًا للدنيا بأسرها ، بكل ألوانها وأجناسها ، معلمًا لكل العصور والدهور . . !
_________
(1) سورة يونس ، الآيتان 15 ، 16 .

وقال الله تعالى { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } (1) .
إنه لم يتكلم من عند نفسه ، ولم ينطق بقوة جنانه ، أو بروعة بيانه ، أو بفصاحة لسانه . . . ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه الحكمة وفصل الخطاب .
وقد علمه الله أن يقول في دعائه :
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (2) .
_________
(1) سورة النساء ، آية 113 .
(2) سورة طه ، آية 114 .

وقال تعالى مبينًا التحول العظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكيف أنه سبحانه وحده هو الذي علمه ورباه ، وزكاه { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } (1) .
_________
(1) سورة الشورى ، الآيات 51- 53 .

وقال عنه . وله : بسم الله الرحمن الرحيم { وَالضُّحَى }{ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى }{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى }{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى }{ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ }{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ }{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (1) .
والقرآن الكريم ، وهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى .
وهو النص الوحيد الباقي لدين الله وهدايته ، ومراده من عباده!
وهو المتعبد بتلاوته ، والمتحدى بأقصر سورة منه!
وهذا هو السر في انتشار (رسالة محمد صلى الله عليه وسلم) وشيوعها في الخافقين ، مع قلة ما يبذل في سبيلها- وبخاصة في هذا الزمان- من جهود ، إذا قيست بما يقيمه أعداؤها في سبيلها من عقبات!!
إن الإسلام . . .
وإن القرآن . . .
وإن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام . . .
إن هذا الخير الكبير ، ينتشر ، ويمتد في انتشاره ، حتى بين البلاد التي يسمونها (العالم الجديد) بلاد النور ، والحرية ، وحقوق الإنسان!!
_________
(1) سورة الضحى ، الآيات 1-11 .

لقد قال أحد الأدباء الإنجليز المشهورين : ( جورج برنارد شو ) :
” وإذا كان لنبوءات كبار الرجال أثر ، فإنني أتنبأ بأن دين محمد ، قد بدأ يكون مقبولًا لدى أوروبا اليوم ، وسيكون مقبولًا لديها أكثر غدًا ، وسيكون دين الإنسانية جميعًا قبل الصيحة الأخيرة ” .
وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » .
وسادسًا وسابعًا : فإن الدلائل والبراهين ، القائمة الشاهدة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته أكثر من أن تحصى أو تستقصى :
فصحابته رضوان الله عليهم من أمارات صدقه ، فالذي يدرس حياتهم في الجاهلية والإسلام ، فرادى أو جماعات يجد عجبًا . . .
أمة متنابزة متخاصمة ، بينهم تراث وعداوات ، تقوم الحروب بينهم ، ولا تهدأ إلا لتبدأ . . وهذه الحروب القائمة الدائمة المستمرة ، تشعلها أوْهَى الأسباب ، ولا تطفئها كل الجهود والمساعي . . . !

هذه الأمة ، تحولت -بعون الله ومدده- إلى أمة متحالفة ، متآلفة ، متكاتفة ، قوية . . . يقول عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم » .
ويقول الله سبحانه وتعالى عنهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (1) .
وقال تعالى { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) .
_________
(1) سورة آل عمران ، الآيتان 102 ، 103 .
(2) سورة الأنفال ، الآيتان 62 ، 63 .

ونقول باختصار- وباختصار شديد :
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من آياته . . . وأخلاقه ، وأقواله ، وأفعاله ، وشريعته من آياته . . .
وأمته من آياته . . .
وغزواته من آياته . . . وعلم أمته ودينهم من آياته . . .
وكرامات صالحي أمته من آياته . . .

المعجزات الحسية

فإن قال قائل :
– فأين معجزات محمد (صلى الله عليه وسلم) الحسية ؟
فإننا نقول :
إن عد ذلك يحتاج إلى صفحات وصفحات ، بل إلى كتب ومجلدات ، لكننا نكتفي بإشارات وتلميحات ، ومن أراد المزيد ، والتفصيل ، فليتبع ذلك في مظانه من كتب الحديث والسير والتواريخ ، فهي مليئة بما يروي الغلة ويشفي العلة (1) .
ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة ، منها :
1- إخباره صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق .
2- وأن خيبر تفتح على يد علي رضي الله عنه في غد يومه .
3- وأنهم يقسمون كنوز ملك فارس وملك الروم .
4- وأن فارس ، نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبدًا ، والروم ذات قرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن ، أهل صخر وبحر ، وهيهات آخر الدهر .
5- وأن الله زوى له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمته ما زوى له منها .
6- ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى .
7- وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيًّا .
8- وأن عثمان يقتل وهو يقرأ في المصحف .
9- وأن أشقى الآخرين من يصبغ هذه من هذه يعني : لحية علي من دم رأسه .
_________
(1) يقول ابن تيمية عن معجزات الرسول صلى الله الحسية : (قد جمعت نحو ألف معجزة) – الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان – ص125 .

10- وأن عمارًا تقتله الفئة الباغية .
11- وأن الخلافة بعده في أمته ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا عضوضًا بعد ذلك .
12- وأنه يكون في ثقيف كذاب ومبير ، أي مهلك ، فرأوهما المختار والحجاج .
13- وأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة ، ففي الصحيحين : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان من خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع وكانت تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها يومًا فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام ، ثم استيقظ يضحك ، فقالت : مم تضحك ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكًا على الأسرة ، أو كالملوك على الأسرة ، فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : أنت من الأولين ، فركبت البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها بعد خروجها منه ، فهلكت » (1) .
14- وأن فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقًا به ، فماتت رضي الله عنها بعد ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم .
15- وقال عن الحسن بن علي رضي الله عنهما : « إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين » ووقع كما أخبر ، فأصلح الله به بين أتباعه وأهل الشام .
_________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الإمارة باب فضل الغزو في البحر 3 / 1518 ، ح 1912 م بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى .

16- وأن أبا ذر ، يعيش وحيدًا ، ويموت وحيدًا .
17- وأن أسرع أزواجه لوحقًا به أطولهن يدًا ، فكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها أسرعهن لحوقًا به لطول يدها بالصدقة .
18- وأن سراقة بن جعشم ، سيلبس سواري كسرى .
19- وقال لخالد رضي الله عنه حين وجهه لأكيدر : إنك تَجده بصيد البقر .
20- في البيضاوي ، وغيره : إنه لما طلعت قريش من العقنقل قال صلى الله عليه وسلم : « هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني . فأتاه جبريل عليه السلام ، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفًّا من الحصباء فرمى بها في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه ، فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل قتلت ، وأسرت » . أ . هـ .
وفي هذا يقول الله تعالى { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (1) .
21- نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة .
_________
(1) سورة الأنفال ، آية 17 .

وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه السلام ، فإن ذلك من عادة الحجر في الكثير الغالب ، وأما أن يحدث ذلك من أصابع هي لحم ودم ، فلم يعهد من غيره صلى الله عليه وسلم .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء ، وأمر الناس أن يتوضأوا منه ، قال فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا عن آخرهم » وهذه المعجزات صدرت بالزوراء عند سوق المدينة .
وعن جابر رضي الله عنه قال : « عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه ، وقالوا : ليس عندنا ماء إلا في ركوتك فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون ” وكان الناس ألفًا وأربعمائة » .

22- عن جابر رضي الله عنه « أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه ، فاستطعمه شطر وسق شعير ، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ” لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم » (1) .
ومعجزة تكثير الطعام بدعائه صلى الله عليه وسلم مروية عن بضعة عشر صحابيًّا ، ورواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا يعد بعدهم ولهذا نظائر مروية عن الأنبياء السابقين .
كما يظهر من معجزة إيلياء عليه السلام في تكثير الدقيق والزيت في بيت امرأة أرملة (سفر الملوك الأول : 17)
وكذلك معجزة اليشع عليه السلام في تكثير عشرين خبزًا من شعير وسنبل مفروك في منديل حتى أكل مائة رجل وفضل (سفر الملوك الثاني : 4) .
وكذلك معجزة عيسى عليه السلام في تكثير خمسة أرغفة وسمكتين (إنجيل متى : 14) .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 337 ، وابن ماجه في الفضائل 2 / 642 / 8 .

23- عن جابر رضي الله عنه ، « كان المسجد مسقوفًا على جذوع نخل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر ، سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار » ، وفي رواية أنس : « حتى ارتج المسجد لخواره » ، وفي رواية سهل : « وكثر بكاء الناس لما رأوا ما به » ، وفي رواية المطلب : « حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه فسكت! »
24- عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده إليها ولا يمسها ، ويقول : ” جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا ” . فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ، ولا لقفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم » .
25- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : « أن عين قتادة ابن النعمان أصيبت حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه » .

26- عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : « قالت أمي : يا رسول الله ، خادمك أنس ، ادع الله له ، فقال : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته . قال أنس : فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم نحو المائة . »
27- إسراؤه ومعراجه صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) .
ولا يحق لواحد من النصارى أن ينكر إسراء النبي ومعراجه ، لأن مثله ثابت في كتبهم لإيلياء وغيره ، ففي العهد القديم :
” وكان عند إصعاد الرب إيليا في العاصفة إلى السماء أن إيليا واليشع ذهبا من الجلجال ” (سفر الملوك الثاني ، 2 : 1) .
” وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار فصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء ” (سفر الملوك الثاني ، 2 : 11) .
28- انشقاق القمر ، لقوله تعالى { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }{ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (2) .
_________
(1) سورة الإسراء ، آية 1.
(2) سورة القمر ، الآيتان 1 ، 2 .

فعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : « ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم » .
29- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه ، فلم تبق له باقية .
30- تسليم الأحجار عليه ، وتسبيح الحصى في كفيه .
ولو رحنا نتتبع هذا كله ، لما اتسع المقام ولا المقال ، ولكننا نجتزئ مما ذكرناه ، ومن أراد ” الزيادة ” و ” التفصيل ” فعليه بكتابي :
1- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لشيخ الإسلام ابن تيمية .
2- إظهار الحق ، للشيخ رحمة الله الهندي .

فإن قال قائل : إن ما ذكرته وما نقلته من هذه المعجزات الحسية ، لم نره ، ولم نشاهده ، ولم نحس به ، فلا يكون حجة علينا !!
قلنا له : وكذلك معجزات المسيح وغيره من الأنبياء لم نرها ، ولم نشاهدها ، ولم نحس بها !!
فإن قال قائل : لكن تواترت روايات الثقات بهذا ؟
قلنا له : إن (الرواية الإسلامية) هي أدق الروايات وأضبطها على الإطلاق ، أما (الرواية المسيحية) فهي رواية يعتريها الشك من كل أقطارها!
ثم إن (المعجزة الحسية) هي كل شيء بالنسبة لهذه الديانات ، . فإن ثبتت صحت هذه الديانات ، وإن انتقت أو دخلها الشك ، بطلت هذه الديانات!

أما الإسلام . . . الدين الخاتم . . . الذي جاء به النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم . . فإنه لم يركز على المعجزة الحسية وحدها . . . وإنما ركز على المعجزات المعنوية . . . وفي قمتها القرآن الكريم . .
والقرآن الكريم معجزة عقلية معنوية باقية لا يهون من جلالها مرور الزمان ، وتقادم الأيام ، بل إن الزمان كلما تقادم زاد هذا القرآن جدة وقوة وإعجازًا ، فالزمان عنصر من الإعجاز في القرآن . . . !
إن الإسلام دين معجز ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ومجالات واتجاهات!
فهو معجز في تشريعه . . . !
وهو معجز في تاريخه . . . !
وهو معجز في دائرة معارفه . . . !
وهو معجز في فتوحاته وانتصاراته . . . !

فإن قال قائل : إن القرآن ينفي (المعجزات الحسية) عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في سورة الأنعام { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } سورة الأنعام ، آية 109 . .

وكما جاء في سورة الإسراء { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا }{ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا }{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا }{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } سورة الإسراء ، الآيات 90- 93 . .
قلنا له : الذي يفهم من هذه الآيات ، وما شاكلها ، نفي المعجزات المقترحة ، ولا يلزم من نفي المعجزات المقترحة نفي المعجزات مطلقًا .
إذ أنه ليس حتمًا على الأنبياء أن يظهروا معجزة كلما طلبها المنكرون!!
بل -على العكس- فهم لا يظهرون المعجزة إذا كان طلبها منطويًا على العناد والامتحان والاستهزاء . . .
ولذلك نظائر في كتب القوم ، لا أدري لماذا يغفلون عنها ، تقول أسفار العهد الجديد :

” فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه ، فتنهد بروحه ، وقال : لماذا يطلب هذا الجيل آية . الحق أقول لكم لن يعطي هذا الجيل آية ” (إنجيل مرقس : 8 : 11 ، 12) .
ومعنى هذا النص أن الفريسين طلبوا معجزة من عيسى عليه السلام على سبيل الامتحان ، فما أظهر معجزة ، ولا أحال- في ذلك الوقت- إلى معجزة ولا وعد بإظهار معجزة فيما بعد . . . !
بل قال : (لن يعطى هذا الجيل آية) وهذا يدل على أنه لن تصدر عنه معجزة إطلاقًا . . . !
لأن لفظ الجيل يشمل جميع الذين كانوا في زمانه!
وليس هذا هو النص الوحيد ، الذي نقلته إلينا أسفار العهد الجديد ، فهناك نصوص أخرى :
ففي إنجيل لوقا :
” وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدًّا لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ، وترجى أن يرى آية تصنع منه . وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء . ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد .
فاحتقر هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباسًا لامعًا ورده إلى بيلاطس ” (إنجيل لوقا ، 23 : 8- 11) .
وفي إنجيل لوقا أيضًا :

” والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه ، وغطوه وكانوا يضربون وجهه ، ويسألونه قائلين : تنبأ . من هو الذي ضربك . وأشياء أخرى كثيرة كانوا يقولون عليه مجدفين ” (إنجيل لوقا ، 22 : 63- 65) .
وفي إنجيل متى :
” وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين : يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك . إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب . وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ ، قالوا : خلص آخرين ، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به ، قد أتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده . لأنه قال : أنا ابن الله . وبذلك أيضًا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه ” (إنجيل متى ، 27 : 39- 44) .
وفي إنجيل متى أيضًا : ” حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية . فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي . لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال فكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ” (إنجيل متى 12 ، 38- 40) .

ولنا على هذا النص ملاحظتان :
الملاحظة الأولى : أن المسيح قد وعد بمعجزة لم تصدر عنه ، لأن المسيح صلب قريبًا من نصف النهار من الجمعة كما يعلم من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا .
ومات في الساعة التاسعة ، وطلب يوسف جسده من بيلاطس وقت المساء فكفنه ودفنه كما هو واضح من إنجيل مرقص .
فدفنه لا محالة كان في ليلة السبت .
وغاب هذا الجسد عن القبر قبل طلوع الشمس من يوم الأحد كما هو واضح في إنجيل يوحنا . فما بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال -كما قال- وإنما بقي يومًا وليلتين!!
والملاحظة الثانية : أن (قيامه من الأموات) لم يره الكتبة والفريسيون بأعينهم . . لأنهم هم الذين طلبوا الآية . . ولأنهم هم الذين وعدوا بها!!
وفي إنجيل متى أيضًا :

” فتقدم إليه المجرب ، وقال له : إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا . فأجاب وقال . مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله . ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل ، وقال له : إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل ، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك ، فعلى إياديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجلك . قال له يسوع : مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك ” (إنجيل متى 4 ، 30 ، 7) .
ففي هذا النص نرى أن إبليس طلب من عيسى عليه السلام -على سبيل الامتحان- معجزتين ، فما أجاب إلى واحدة منهما!!

الجهاد في الإسلام

و . . . بين يدي سؤال عن السيف ، وانتشار الإسلام بالسيف ، وهو سؤال مكرور ومعاد . . . وليست هذه أول مرة يثار فيها ، ولن تكون آخر مرة!!
وليست هذه أول مرة يجاب فيها على هذا السؤال ، ولن تكون آخر مرة!! لأن قائمة (النحل الفاسدة) قائمة محفوظة ، تلقى إِلقاء بدون وعي ولا بصيرة!
وكأن الله – سبحانه وتعالى- أراد . . لرجال الكهنوت أن يحتفظوا بقائمة الاتهامات هذه . . . وأن ينشروها بين أتباعهم . . . ومن يريدون إيقاعهم في شباكهم وشراكهم . . . !
لتكون هذه القائمة . . . كما أرادوا لها أن تكون! . . . صدًّا عن سبيل الله ، وصرفًا للناس عن دين الهدى والحق . . . !
ولكنها تصبح إمارة هدى ، وإشارة براءة ، وبشارة حق ، كما أراد الله لها أن تكون . . ! وفرق كبير وهائل . . . بين ما يريده الله . . . وما يريده الطغاه !

لقد أمر الله المسلمين بأن يجادلوا الناس جميعًا بالتي هي أحسن سواء أكانوا من أهل الكتاب ، كما قال تعالى { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (1) .
أم كانوا من غيرهم ، كما قال تعالى { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }{ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ }{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ }{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (2) .
_________
(1) سورة العنكبوت ، 46 .
(2) سورة النساء ، آية 128 .

وهذه الآيات وأمثالها ، لا تناقض ما جاء في قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } (1) .
فالجمع بين (الجدال) و(الجهاد) وهو أسلوب الإسلام ومنهجه ، ولكل منهما موضعه ، إذ إن كلًّا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر ، وإن استعمالهما جميعًا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق .
فمن كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال ، فهو داخل ضمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن ، وليس داخلًا فيمن أمر الله بقتاله .
ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته عند وفاته :
_________
(1) سورة النساء ، آية 77 .

” وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يوفي لهم بعهدهم ، وإن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا إلا طاقتهم ” .
وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
« ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة » رواه أبو داود .
قال أبو عبيد ، في (كتاب الأموال) عن ابن الزبير :
« كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته ، فإنه لا يفتن عنها ، وعليه الجزية » .
وأما الظالمون الذين قال الله فيهم { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (1) .
فهؤلاء لم نؤمر بجهادهم بالتي هي أحسن ، لأن الظالم ليس بذي علم ولا دين ولا حق ، ولهذا كان مستحقًّا للقتال .
_________
(1) سورة العنكبوت ، آية 46 .

وأما المستجير المستأمن -وهو من أهل الحرب- فقد أمر الله تعالى بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه ، ثم يبلغ مأمنه ، قال تعالي : – { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } (1) .
والحرب الإسلامية ، دفعت إليها الرحمة ، وأظلتها الرحمة ، وأنهتها الرحمة . . وإذا كان من الرحمة بجسم الإنسان أن تقطع بعض إجزائه الفاسدة حتى لا يسري الفساد ولا يستشري ، فإن من الرحمة بالناس جميعًا أن تبتر عناصر الفساد من الطغاة والظالمين والمستبدين ، حتى يعيش سائر الناس آمنين مطمئنين ، لا يهدد حياتهم خوف ولا ظلم ولا اضطهاد .
والباعث على الحرب الإسلامية ، كما جاء في القرآن الكريم ، رد العدوان ، وصد الطغيان ، قال تعالي : – { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } (2) .
وقال تَعالى { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (3) .
_________
(1) سورة التوبة ، 6 .
(2) سورة الحج ، آية 39 .
(3) سورة البقرة ، آية 190 .

وقال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } (1) .
وقد بين سبحانه وتعالى أن معاملة المعتدين إنما تكون على قدر اعتدائهم ، فقال تعالى : – { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (2) .
ومن هذه النصوص وغيرها -وهو كثير- نرى أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين ، وكان اعتداء على الحرية الدينية ، ومحاولات متكررة ، وبشتى الأساليب لفتنة المؤمنين في عقيدتهم ، وصرفهم عن دينهم ، وصدهم عن سبيل ربهم .
كذلك نستبين من هذه النصوص وغيرها -وهو كثير- أن المسلمين لما طولبوا وخوطبوا برد العدوان ، طولبوا وخوطبوا -أيضًا- بأمرين هامين هما : 1- عدم الاعتداء { وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 30 والاعتداء هنا ، هو أن يقاتلوا من لم يبدأهم بقتال ، ومن لم يضع العقبات والعراقيل في سبيل تقدم الدعوة الإسلامية الهادية .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 193 .
(2) سورة البقرة ، آية 194 .

2- والتقوى { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (1) . والتقوى -هنا- هي الالتزام بالفضيلة ، فلا يجرفهم تيار العداوة إلى التشبه بأعدائهم فيما يفعلون ، من العدوان على الأعراض ، والتمثيل بالقتلى . . . وما إلى ذلك من أسلوب شركي جاهلي إرهابي خبيث .
ثم . . . إن الذين يراجعون (السيرة النبوية) وما جرى للمسلمين من اضطهاد وتعذيب ، وفتنة وتشريد ، يعلمون أن الباعث على (الحرب الإسلامية) إنما هو رد العدوان ، وإيقاف المد الهمجي الرهيب للظلم والطغيان ، { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (2) . هذا هو مجمل الحديث عن القتال في شبه الجزيرة العربية ، وهذه هي باختصار شديد ومفيد ، أسبابه ودوافعه!
لقد تجمع الشرك بكل قدراته ، وجحافله ، وألقى بأفلاذ أكباده ، ليضرب الإسلام في معقله ، وبين أنصاره من أهل ( المدينة )!!
فنزل قول الله تعالى : – { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (3) . .
تلك كانت حال (الحروب الإسلامية) داخل الجزيرة !
_________
(1) سورة البقرة ، آية 194.
(2) البقرة ، آية 193.
(3) سورة التوبة ، آية 36.

أما حال هذه الحروب خارج الجزيرة : – فلقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إلى الملوك والرؤساء ، إلى هرقل ، وإلى المقوقس ، وإلى كسرى . . وإلى غيرهم . . بل وإلى أمراء بعض البلاد العربية النائية . . .
فما كان جواب أكثرهم إلا الإساءة ، سواء أكانت إساءة قولية أم فعلية !!
ومن تتبع صفحات التاريخ ، نرى أن الباعث على (الحرب الإسلامية) إنما هو دفع الأذى ، وتمكين الدعوة ، ومقاومة الشر ، ومكافحة الطغيان . . . ولم يكن ثمة إكراه على دين ، أو قهر على إيمان ، قال تعالى { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1) . .
وقال تعالى { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (2) . .
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكره أحدًا على الدين بل ثبت عكس ذلك ، وهو ، أن بعض الأنصار أراد أن يكره ولده على الإسلام فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
_________
(1) سورة البقرة ، آية 256.
(2) سورة يونس ، آية 99.

ويقول تعالى : – { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } (1) . .
وهنا نتوقف لنستعرض بعض النصوص التي تلقي الضوء على أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه في الحرب ، سواء أكان ذلك في وقت الإعداد لها أم في وقت مباشرتها أم في أعقابها .
1- كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو المؤمنين إلى عدم تمني لقاء العدو ، فكان يقول :
« لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموهم فاصبروا » (2) .
2- ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على منع القتال حتى بعد أخذ الأهبة له ، فهو يقول لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن قائدًا :
« لا تقاتلوهم حتى تدعوهم ، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلًا ، ثم أروهم ذلك ، وتولوا لهم : هل إلى خير من هذا من سبيل ، فلأن يهدي الله على يديك رجلًا واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت » .
3- ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف دعوته وحربه : « أنا نبي الرحمة ، وأنا نبي الملحمة » .
_________
(1) سورة التوبة ، آية 6.
(2) الحديث متفق عليه ، أخرجه البخاري في الجهاد 32- 112 ، 156 ، ومسلم في الجهاد 19 / 20 ، وأبو داود في الجهاد 89.

والرحمة والملحمة متلازمتان في حروب النبي صلى الله عليه وسلم . . . !
فالرحمة الحقيقية إنما تكون في قطع أصول الفساد ، وإيقاف انتشار الجريمة والشر .
4- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي جنده بتأليف القلوب ، لا بإتلاف النفوس ، فهو يقول : « تألفوا الناس ، وتأنوا بهم ، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم ، فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتوني بهم مسلمين ، أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم » .
5- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي جيشه المحارب بألا يقوم بإتلاف زرع أو قطع شجر ، أو قتل الضعاف من الذرية والنساء والرجال الذين ليس لهم رأي في الحرب ، ولم يشتركوا فيها من قريب أو بعيد ، ومن ذلك قوله : « سيروا بسم الله ، في سبيل الله ، وقاتلوا أعداء الله ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا » .
ويقول عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه :
« لا تقتل ذرية ولا عسيفًا : أي عاملًا » .
6- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشدد في المنع من قتل الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يحاربون ، وليس لهم رأي في الحرب .

فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على القتلى ، فرأى امرأة مقتولة ، فقال : « ما كانت هذه لتقاتل » .
وقال : « ما بال أقوام تجاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية ، ألا لا تقتلوا الذرية ، ألا لا تقتلوا الذرية » .
7- وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة -ولو فعلها المشركون مع المسلمين- قال :
« إياكم والمثلة » .
8- ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى المشركين ، ولم يترك جثثهم نهبًا لوحوش الأرض ، وسباع الطير ، إذ « أمر صلى الله عليه وسلم بوضع جثث القتلى من قريش في (القليب) وهي بئر جافة » .
كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الإجهاز على الجرحى .
9- وكانت حرب النبي صلى الله عليه وسلم تنتهي بأحد أمور ثلاثة :
أولها – (الموادعة) ، قال تعالى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (1) . .
وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (2) . .
_________
(1) سورة الأنفال ، آية 61.
(2) سورة البقرة ، آية 208.

ثانيها – (الصلح وإنهاء الحرب) ويكون هذا الصلح على أساس العدالة والوفاء . ولأنه صلح منه للحرب بعد وقوعها ، لذا لزم أن يكون مقرونًا بإعلان الإسلام في ربوع الديار التي كان النصر فيها للمؤمنين .
وثالثها – (النصر المبين) ويكون بإعلاء كلمة الله ، كما قال تعالى { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (1) . .
10- وكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه المنهزمين موقفًا كريمًا للغاية .
ونضرب مثلًا واحدًا لهذا المعنى الإنساني النبيل :
لقد كانت آخر حرب للنبي صلى الله عليه وسلم مع قريش هي التي انتهت بفتح مكة للإسلام والمسلمين . . . !
ثم . . . ماذا ؟
ثم التقى النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الذين آذوه وعادوه واضطهدوا أصحابه ، وساؤهم سوء العذاب . . . حتى إن منهم من مات تحت وطأة العذاب ، وضراوة الفتنة . .
فماذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وماذا قالوا له ؟
« قال لهم : ” ما تظنون أني فاعل بكم ” ؟
قالوا : خيرًا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم!!
_________
(1) سورة الحج ، آية 41.

فقال لهم : ” لا أقول لكم إلا ما قاله أخي يوسف { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (1) . .
اذهبوا فأنتم الطلقاء » (2) !!!
11- وموقفه صلى الله عليه وسلم من الأسرى ، موقف كريم رحيم ، وهو أعرف من أن يعرف- فهو الذي يقول : « استوصوا بالأسرى خيرًا » .
ولقد قام صحابته رضوان الله عليهم بما أمرهم به خير قيام ، حتى أثنى الله عليهم بقوله { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (3) . .
_________
(1) سورة يوسف ، آية 92.
(2) أخرجه البخاري في المغازي 3 / 345 ، وأحمد في المسند 3 / 190-286 .
(3) سورة الإنسان ، آية 8.

الحرب في الأسفار المقدسة
بعد هذا الاستعراض الموجز الأمين لأسلوب (الحرب الإسلامية) كما تحدث عنها القرآن الكريم والسنة المطهرة . . . !
نقدم الصورة المقابلة ، وهي صورة (الحرب الدينية) كما تحدثت عنها الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى!
وبضدها تتميز الأشياء . . . كما قال سلفنا العلماء!
وسنرى مدى البشاعة والشناعة التي تظهرها هذه الصورة الأخيرة . . . !
(ولا نزيد في التعليقات عن هذا الحد ، لأننا نريد للنصوص أن تتكلم ، وأن تقول كل شيء!) .
في الإصحاح العشرين من سفر التثنية (عدد 10 وما بعده) :

(حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح ، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة فتغتنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك . هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا . وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما ، بل تحرمها تحريمًا ، الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك ، لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم ” .
فظهر من هذا النص (المقدس- طبعًا!!) أن الله أمر بأن يقتل بحد السيف كل ذي حياة من ذكور وإناث وأطفال الشعوب الستة :
1- الحثيين . 2- والأموريين . 3- والكنعانيين . 4- والفرزيين . 5- والحويين . 6- واليبوسيين .
وأمر فيما عداهم بأن يدعو :

أولًا : إلى الصلح ، فإن رضوا به ، وقبلوا الطاعة والخضوع وأداء الجزية ، فبها .
ثانيًا : وإن لم يرضوا ، يحاربوا .
ثالثًا : فإذا تم الظفر بهم ، يقتل كل ذكر منهم بحد السيف ، وتسبى نساؤهم وأطفالهم ، وتنهب دوابهم وأموالهم ، وتقسم على المحاربين .
وهكذا يفعل بكل الشعوب البعيدة عن الشعوب الستة .
وفي الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج (عدد 22 وما بعده) :
” فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم ، لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها ولا تعمل كأعمالهم بل تبيدهم وتكسر أنصابهم ” .
وفي الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج (عدد 11 وما بعده) جاء أيضًا- في شأن هؤلاء الشعوب الستة :
” احفظ ما أنا موصيك اليوم . ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخًا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم ” .
وفي الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر العدد (عدد 50 وما بعده) :

” وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلًا : كلم بني إسرائيل وقل لهم : إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم ، تملكون وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم ، الكثير تكثرون له نصيبه ، والقليل تقللون له نصيبه . حيث خرجت له القرعة فهناك يكون له . حسب أسباط آبائكم تقتسمون . وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم ومناخس في جوانبكم ، ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها . فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم ” .
وفي الإصحاح السابع من سفر التثنية (عدد 1 وما بعده) :

(متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتملكها وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، سبع شعوب أكثر وأعظم منك . ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم ، لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم ، بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تأخذ لابنك ؛ لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا ، ولكن هكذا تفعلون بهم ؟ تهدمون مذابحهم ، وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم ، وتحرقون تماثيلهم بالنار ؟ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك ” .
فنعلم من هذا النص (المقدس- طبعًا ! !) أن الله أمر بإهلاك كل ذي حياة من الأمم السبع ، وعدم الشفقة عليهم ، وعدم إبرام أي معاهدة معهم ، وتخريب مذابحهم ، وتكسير أصنامهم ، وإحراق أوثانهم ، وتقطيع سواريهم ، وطالب بإهلاكهم ، وشدد في ذلك تشديدًا بليغًا ، حتى قال لهم إن لم ينفذوا : ” إني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم ” .
ثم إن هناك ملاحظة -ليست عابرة- تتعلق بعدد هؤلاء الأمم والشعوب . . لقد قال النص عنهم إنهم ” أكثر وأعظم منك ” .

ولكي نقف على إحصاء تقريبي لعدد هؤلاء الشعوب ، نقول :
قد ثبت في الإصحاح الأول من سفر العدد ، أن عدد بني إسرائيل الذين كانوا صالحين لمباشرة الحروب ، وكانوا أبناء عشرين سنة فما فوقها ، هو 550 ، 603 رجلًا .
وإن اللاويين الذين لم يبلغوا عشرين سنة خارجون عن هذا العدد .
ولو أخذنا عدد جميع بني إسرائيل ، وضممنا المتروكين والمتروكات كلهم إلى المعدودين لبلغ العدد ما لا يقل عن مليونين ونصف المليون .
ولننقل (النص المقدس 11) بكامله ليحدد لنا هذه الأرقام .
جاء في الإصحاح الأول من سفر العدد (العدد 20 وما بعده) :
” فكانوا بنو رأوبين بكر إسرائيل تواليدهم هم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء برؤوسهم كل ذكر من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، كان المعدودون منهم لسبط رأوبين . ستة وأربعين ألفًا وخمسمائة .
بنو شمعون تواليدهم هم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم المعدودين منهم بعدد الأسماء برؤوسهم كل ذكر من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب المعدودون منهم لسبط شمعون . تسعة وخمسون ألفًا وثلاثمائة .

بنو جاد تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط جاد : خمسة وأربعون ألفًا وستمائة وخمسون .
بنو يهوذا تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط يهوذًا : أربعة وسبعون ألفًا وستمائة .
بنو يساكر تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط يساكر : أربعة وخمسون ألفًا وأربعمائة .
بنو زبولون تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط زبولون : سبعة وخمسون ألفًا وأربعمائة .
بنو يوسف بنو أفرايم تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط أفرايم : أربعون ألفًا وخمسمائة .
بنو منسي تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط منسي : اثنان وثلاثون ألفًا ومئتان .

بنو بنيامين تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط بنيامين : خمسة وثلاثون ألفًا وأربعمائة .
بنو دان تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط دان . اثنان وستون ألفًا وسبعمائة .
بنو أشير تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط أشير . واحد وأربعون ألفًا وخمسمائة .
بنو نفتالي تواليدهم حسب عشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب ، المعدودون منهم لسبط نفتالي . ثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة .
هؤلاء هم المعدودون الذين عدهم موسى وهارون ورؤساء إسرائيل اثنا عشر رجلًا واحد لبيت آبائه . فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب في إسرائيل . كان جميع المعدودين : ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين .
وأما اللاويون حسب سبط آبائهم فلم يعدوا بينهم ” .
من هذا كله يتضح . . .

أن هذه الأمم السبعة ، التي هي أكثر من الإسرائيليين عددًا . . يصل عددها إلى ملايين كثيرة . . .
فقد ألف القسيس (الدكتور كيث ) كتابًا بالإنجليزية- سماه . (كشف الآثار ، في قصص أنبياء بني إسرائيل ) جاء فيه :
” علم من الكتب القديمة أن البلاد اليهودية كان فيها قبل 550 سنة من الخروج ثمانون مليونًا ” .
إذًا ، فهذا هو العدد الذي أمر (الكتاب المقدس) بقتله وإبادته . . . (ثمانون مليونًا) . ! ! !
ثم إذا تابعنا (النصوص المقدسة) التي تحمل أوامر مشددة بالقتل والإبادة فإننا نجد كل ما يشيب ويريب .
ففي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج (عدد 20) :
” من ذبح لآلهة غير الرب وحده يهلك ” .
وفي الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج (العدد 25 وما بعده) :
يقول عن عبدة العجل :

” ولما رأى موسى الشعب أنه معرى ، لأن هارون كان قد عراه للهزء بين مقاوميه . وقف موسى في باب المحلة . وقال من للرب فإليَّ . فاجتمع إليه جميع بني لاوي ، فقال لهم . هكذا قال الرب إله إسرائيل ، ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه . ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى ، ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ” .
وفي الإصحاح الخامس والعشرين من سفر العدد (العدد 1 ، وما بعده) :

” وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن . فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن ، وتعلق إسرائيل ببعل فغور ، فحمي غضب الرب على إسرائيل ، فقال . الرب لموسى . خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل ، فقال موسى لقضاة إسرائيل اقتلوا كل واحد قومه المتعلقين ببعل فغور . وإذا رجل من بني إسرائيل جاء وقدم إلى إخوته المديانية أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إسرائيل وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع ، فلما رأى ذلك فينحاس بن العازار بن هارون الكاهن قام من وسط الجماعة وأخذ رمحًا بيده ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنها فامتنع الولاء عن بني إسرائيل . وكان الذين ماتوا بالولاء أربعة وعشرين ألفًا ” .
وفي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر العدد (العدد 1 ، وما بعده) :

” إن موسى أرسل اثني عشر رجلًا مع فينحاس بن العازار لمحاربة أهل مديان فحاربوا وانتصروا عليهم ، وقتلوا كل ذكر منهم ، وملوكهم الخمسة وبلعام ، وسبوا نساءهم وأولادهم ومواشيهم كلها ، وأحرقوا القرى والدساكر والمدائن بالنار ، فلما رجعوا غضب عليهم موسى وقال : لم استحييتم النساء ؟ ثم أمر بقتل كل طفل مذكر وكل امرأة ثيبة ، وإبقاء الأبكار ، ففعلوا كما أمر . وكانت الغنيمة من الغنم . (675 . 000) ومن البقر (72 . 000) ومن الحمير (61 . 000) ومن النساء والأبكار (32 . 000) وهنا نسأل .
إذا كان عدد النساء الأبكار اثنين وثلاثين ألفًا ، فكم يكون عدد المقتولين من الذكور مطلقًا ، شيوخًا وشبانًا وصبيانًا ؟ وكم يكون عدد المقتولات من النساء الثيبات ؟ ! !
وإذا انتقلنا إلى يشوع . . . فإننا نجده قد قام بقتل الملايين وذلك بعد موت موسى !! (كما هو مذكور في سفره) .
وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر القضاة (العدد 15 ، وما بعده) :
إن شمشون قتل ألف رجل بلحي حمار ! ! !
” ووجد لحي حمار طريًا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل فقال شمشون : بلحي حمار كومة كومتين ، بلحي حمار قتلت ألف رجل ” .

وفي الإصحاح السابع والعشرين من سفر صموئيل الأول (العدد 8 ، وما بعده) :
” وصعد داود ورجاله وكزوا الجشوريين والجرزيين والعمالقة لأن هؤلاء من قديم سكان الأرض من عند شور إلى أرض مصر وضرب داود الأرض ولم يستبق رجلًا ولا امرأة وأخذ غنمًا وبقرًا وحميرًا وثيابًا ورجع إلى أخبيش ” .
فهذا هو داود (كما تقدمه لنا النصوص المقدسة ! !) رجل يسطو على البلاد ، ويخرب الديار ، فما كان يبقي رجلًا ولا امرأة !! ولا دابة ولا متاعًا !!
وفي الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الثاني (العدد 2 ، وما بعده) :
” وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات . فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل . وعوقب داود جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة . فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل ، وجعل داود محافظين في آرام دمشق وصار الآراميون لداود عبيدًا يقدمون هدايا ” .
وفي الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني (العدد 29 ، وما بعده) :

” فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها ، وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم وكان على رأس داود . وأخرج غنيمة المدينة كثيرًا جدًا . وأخرج الشعب الذي كان فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد وأمرهم في أتون الآجر ، وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون ” .
هكذا تكلمت أسفار العهد القديم . . . !
وبهذا آمن كهنة العهد القديم . . . !
فماذا تقول أسفار العهد الجديد . . . ! ؟
وبماذا يؤمن كهنة العهد الجديد . . . ! ؟
يعقب بولس على هذا كله -وغيره ، وهو كثير كثير- بقوله في الرسالة إلى العبرانيين (11- 32 ، 35) :
” وماذا أقول أيضًا لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك ، صنعوا برًا ، نالوا مواعيد ، سدوا أفواه أسود ، أطفأوا قوة النار ، نجوا من حد السيف ، تقووا من ضعف ، صاروا أشداء في الحرب ، هزموا جيوشًا غرباء ” .
فبولس -أعظم كهنة العهد الجديد – يرى أن ما فعله هؤلاء الذين عدد أسماءهم إنما هو بر وإيمان وتقوى وإصلاح وخير . . . !

وهكذا يتناقل الكهنة القدامى والمحدثون أخبار الدمار والخراب والقتل والتشريد بالابتهاج والتسبيح والتحميد . . . وتفريخ الكرامات والآيات والمعجزات!!
وعلى وقع الترانم الكنسية (الشجية!!) يرددون قول المسيح : ” لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض ، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا ” ( متى ، 10- 34) .

الوثائق تتكلم
والآن . . . أنقل -أو أقرأ- عليكم بعض النصوص المأخوذة من (تاريخ الاضطهاد الصليبي) .
وأحب أن أقسم هذا الاضطهاد إلى نوعين :
النوع الأول : كان فيه الصليبيون هم المضطهَدين (بفتح الهاء)- مفعولًا بهم !!
والنوع الثاني : كانوا هم المضطهِدين (بكسر الهاء)! – فاعلون !!
والذي علينا هو أن نلقي نظرات فاحصة لنتعرف على ملامح القوم في الحالتين! علينا أن نتعرف على ما نزل بالمسيحيين من أعدائهم في فجر التاريخ المسيحي ، ثم ما أنزله المسيحيون بأعدائهم ومخالفيهم بعد قوتهم وسيطرتهم وتمكنهم وتحكمهم .
لقد كان المسيحيون -في أول عهدهم- مغلوبين على أمرهم ، تنزل بهم صنوف العذاب ، وألوان الضيم والخسف والوحشية ، ثم لما آل إليهم الأمر ، وأصبح بيدهم السلطان ، أنزلوا بأعدائهم ومخالفيهم ألوانًا من القتل والذبح والتشريد . . حتى أنشأوا للعذاب البربري ديوانًا سموه (الديوان المقدس) ومحاكم سموها (محاكم التفتيش) !!
أما تعاليم الرحمة والغفران . . .
أما نداءات المسيح التي يتشدقون بها .

” سمعتم أنه قيل : عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا ، ومن أراد أن يخاصمك وأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا ، ومن سخرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين . من سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ” .
” سمعتم أنه قيل : تحب قريبك وتبغض عدوك ، وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعدائكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ” (إنجيل متى 5 ، 38-44) .
أما هذه الوصايا والنصائح ، فقد ذهبت أدراج الرياح .
النصارى تحت نير الاضطهاد
لقد بدأ اضطهاد المسيحيين منذ وقت مبكر ، وقد كان المسيح نفسه -حسبما تصوره أساطيرهم- ضحية لهذا الاضطهاد . وقد نزل بأتباعه فيما بعد كثير من العسف والظلم ، وكان اليهود مصدر هذه القسوة .
لكن المسيحية بدأت تنتشر على الرغم من اليهود ، وغلبتهم على أمرهم ، وحينئذ تقدم أباطرة الرومان ، ليقوموا بدورهم المشهور في اضطهاد المسيحيين !! وذلك لأن هؤلاء الأباطرة كانوا لا يعرفون من أمر ذلك الدين الجديد إلا أنه امتداد لليهودية ، ولقد كانت اليهودية موضع كراهية واشمئزاز من الرومانيين .

وذلك على غير ما جرى عليه العرف من أن الإمبراطورية الرومانية تعطي أبناءها حق الحرية الدينية .
ذلك أن اليهودية -بتعصبها وعنصريتها- أثارت الحقد والضغينة في القلوب وكان الأباطرة -قبل المسيح – يقاومون ذلك التيار اليهودي العدواني الجارف !! هذا من جهة . . .
ومن جهة أخرى ، إِنه مما أثار حقد الرومان على المسيحية -كذلك- أن المسيحية أخذت من اليهودية تعصبها ، فأعلنت -حتى في عهود ضعفها- أنها تناصب العقائد الأخرى العداء ، وأنها ستعمل على تحطيم الحضارة الرومانية عندما تتهيأ لها الفرصة .
أما هذا التحول الذي أعلنته المسيحية من التسامح والرضا والرحمة ، إلى الحقد والثأر ، فإنه يمثل تحول المسيحية وانتقالها من وصايا عيسى ، إلى أفكار بولس ، كما يؤكد ذلك كثير من المؤرخين والباحثين!
ولعل أبشع حركات الاضطهاد التي عاناها المسيحيون في القرن الأول تلك التي أنزلها بهم نيرون الطاغية سنة 68 م ، فقد ألقى بعضهم للوحوش الضارية تنهش أجسامهم ، وأمر فطليت بالقار وأشعلت لتكون بعض مصابيح الاحتفالات التي أقامها نيرون في حدائق قصره !!

وفي القرن الثاني كان المسيحيون يعتبرون أنجاسًا لا يسمح لهم بدخول الحمامات والمحال العامة ، وكانوا -كما حدث في عهد نيرون وغيره- يلقون للوحوش الضارية تفترسهم في مدرج عام يضم خصومهم الذين يحضرون للتلهي بمشاهدة هذه المظاهر .
ولقد سجل القرن الثالث صورًا أخرى من أبشع وأشنع أنواع التعذيب والاضطهاد للمسيحيين ، وذلك في عهد الإمبراطور قلديانوس ، فقد أمر بهدم كنائس المسيحية ، وإعدام كتبها المقدسة وآثار آبائها ، وقرر اعتبار المسيحيين مذنبين ، وأسقط حقوقهم المدنية ، وأمر بإلقاء القبض على الكهان وسائر رجال الدين ، وصب عليهم العذاب ألوانًا .
ونفذت هذه التعليمات في جميع المناطق ، فامتلأت السجون بالمسيحيين ومات الكثيرون بعد أن مزقت أجسادهم بالسياط ، والمخالب الحديدية ، وأحرقت بالنار ، ومزقت إربًا إربًا ، أو طرحوا للوحوش الضارية أو غير هذا من وجوه التعذيب ، وقد سمى المسيحيون عصره الممتد من سنة 284 إلى 305 م عصر الشهداء .

وفي مطلع القرن الرابع تغيرت الأحوال فقد أصدر الإمبراطور قسطنطين مراسيم التسامح سنة 311 ، 312 م ، ثم دخل المسيحية بعد ذلك بعشر سنوات ، وسرعان ما قويت المسيحية ، ورجحت كفتها ، فانقضَّت على أعدائها ، تقتل ، وتعذب ، وتفتك ، فتأسست الجمعيات الثورية باسم الدين ، وكان أشهرها جمعية (الصليب المقدس) في تورينو ، التي أخذت على عاتقها استئصال شأفة بقايا الرومانيين الوثنيين !!
ميزان القوى يتغير
حدّث بعد ذلك ولا حرج ، عن الدماء التي سفكت ، والأرواح التي أزهقت ، مما جعل ( هارثمان ) يصف (الانتقام المسيحي) ، بأنه أفظع المجازر البشرية التي سجلها التاريخ !!
ولم يقف الاضطهاد المسيحي ، أو الانتقام المسيحي عند الوثنيين فحسب ، بل تعداهم إلى المسيحيين أيضًا .
إذ أن المسيحية التي ظهرت وأصبحت ذات كيان وسلطان ، لم تكن مسيحية ( عيسى عليه السلام) وإنما هي مسيحية بولس ومسيحية الفلسفة الإغريقية ، لكنها -كانت ولا تزال- تحمل اسم المسيحية على أي حال !!

وإذا كانت هذه المسيحية قد ابتدعت أشياء لا يرضى عنها المسيحيون الحقيقيون كألوهية المسيح ، والتثليث ، والصلب والفداء ، وما إلى ذلك ، فقد بدأ صراع جديد اعتبُر فيه المسيحيون الحقيقيون متمردين ، وأوقعت بهم المسيحية الإغريقية أو مسيحية بولس ، ألوانًا من العنت والاضطهاد واستمرت الكنيسة في تفريخ البدع ، وترويج الخرافات كالعشاء الرباني ، وصكوك الغفران !!
ووجد من المسيحيين من يعارض هذه الخرافات ، فووجه بقسوة لا نظير لها ، ووحشية تشمئز منها النفوس!
وسألمُّ في هذه العجالة ببعض الصور من هذا العنت والاضطهاد الذي أنزله المسيحيون بإخوانهم المسيحيين .
في القرن الرابع الميلادي ، عارض ( آريوس ) القول بألوهية المسيح مما دعا إلى عقد (مجمع نيقية) عام 325 م .
وقرر هذا المجمع إدانة آريوس ، وإحراق كتاباته وتحريم إقتنائها وخلع أنصاره من وظائفهم ونفيهم والحكم بإعدام كل من أخفى شيئًا من كتابات آريوس وأتباعه .
وفي عهد تيودوسيوس سنة 395 م ، ظهرت لأول مرة (محكمة التفتيش) .

وتم تنظيمها فيما بعد في القرن الثاني عشر ، وكان أعضاؤها من الرهبان ، وكانت وظيفتهم اكتشاف المخالفين في العقيدة ، ولهم سلطان كبير فلا يسألون عما يفعلون .
وتاريخ محكمة التفتيش هو تاريخ الاضطهاد الديني في أقسى صوره ، وقتل حرية الفكر بأبشع أسلوب .
ومن أشد أساليبها انحرافًا ، أنها نادت بضرورة أن ينهى كل إنسان -في غير ما تواطؤ ، أو تباطؤ- ما يصل إلى سمعه أو علمه من أخبار الملحدين ، وهددت من يتوانى في ذلك بعقوبات صارمة في الدنيا والآخرة ، فانتشر بسبب ذلك (القرار الإرهابي) نظام التجسس حتى بين أفراد الأسرة الواحدة !!
وفي القرون التالية كثر صرعى هذا النظام ، وتعرض للشنق والإحراق والإعدام جماعات كثيرة لأنهم في نظر الكنسية وكهنتها هراطقة .
وكثيرًا ما كانت الكنسية تلجأ إلى الإعدام البطيء مبالغة في التعذيب ، إذ كانت تسلط الشموع على جسم الضحية ، وتخلع أسنانه كما فعل ببنيامين كبير أساقفه مصر ، لأنه رفض الخضوع لقرارات مجمع (خلقيدونية) الذي يرى أن للمسيح طبيعتين ، إلهية وإنسانية .
وكان الإعدام يسبق بصورة بشعة من التعذيب كالكي بالنار والضرب المبرح ، لعل المتهم يعترف أو يقر ، فإن لم يعترف قتل .

وكان شعار المحاكمات : المتهم مجرم حتى تثبت براءته .
وليس المتهم بريء حتى تثبت إدانته .
وإذا اعترف المتهم بجريمته استمر تعذيبه قبل القضاء عليه لعله يعترف بأسماء أنصاره وشركائه .
وكانت القوانين تقضي أن يحمل الأبناء والأحفاد تبعة الجرم الذي يتهم به الأباء .

لغة الوثائق والأرقام
استعملت الكنسية الرومانية -مرات كثيرة- الاضطهادات والطرد ضد البروتستانت ، وذلك في ممالك أوروبا ، وقد بلغ عدد من أحرق بالنار قرابة 230 . 000 من الذين آمنوا بيسوع دون البابا .
وفي فرنسا قتل في يوم واحد ثلاثون ألف رجل!
وفي مدينة تولوز قتل ألف ألف!
وفي كالابريا الإيطالية سنة 1560 م ، قتل ألوف الألوف من البروتستانت!! يقول أحد الكتاب الرومانيين : إنني أرتعد كلما تذكرت ذلك الجلاد والخنجر الدموي بين أسنانه والمنديل يقطر دمًا بيده ، وهو متلطخ اليدين إلى نهاية المرفقين ، يسحب واحدًا بعد واحد من المساجين كما يفعل الجزار بالغنم !!
وكارولوس الخامس سنة 1521 م ، أصدر أمرًا بطرد البروتستانتيين من بلاد الفالامنك برأي البابا وبسبب ذلك قتل خمسمائة ألف .
وبعد كارلوس تولى ابنه فليبس ولما ذهب إلى إسبانيا سنة 1559 م ، استخلف الأمير ألفا على طرد البروتستانتيين ، ويذكر المؤرخون أنه في أشهر قليلة قتل على يديه ثمانية عشر ألفًا! وبعد ذلك كان يفخر بأنه قتل في جميع المملكة ستة وثلاثين ألفًا!
هذا ما فعله الكاثوليك بالبروتستانت!
فماذا فعل البروتستانت بالكاثوليك عندما قدروا ؟

أصدر البروتستانت هذه القوانين!
(1) لا يرث كاثيوليكي تركة أبويه .
(2) لا يشتري واحد منهم أرضًا بعد ما يجاوز عمره ثماني عشرة سنة إلا إذا صار بروتستانتينيًا !!
(3) لا يشتغل أحد منهم بالتعليم ، ومن خالف هذا الحكم يسجن سجنًا مؤبدًا .
(4) من كان من الكاثوليك يؤدي ضعف الخراج .
(5) إن أرسل أحد منهم ولده خارج إنجلترا للتعليم يقتل هو وولده وتسلم أمواله ومواشيه كلها .
(6) لا يعطى لهم منصب في الدولة .
(7) من لم يحضر منهم يوم الأحد أو العيد في الكنيسة البروتستانتينية يغرم غرامة مالية شهرية كبيرة ، ويكون خارجًا عن الجماعة .
(8) لا يسمع استغاثة أحد منهم عند الحكام وحسب القانون .
(9) لا تنفذ أنكحتهم ، ولا تجهز موتاهم ولا تكفن ، ولا تعمد أولادهم إلا إذا كان ذلك على طريقة كنيسة إنجلترا .
(10) لا يحضر القسيس عند قتلهم ولا عند تجهيزهم وتكفينهم .
(11) لا يصح لواحد منهم أن يمتلك سلاحًا .
(12) إن أدى قسيس منهم خدمة من الخدمات المتعلقة به يسجن سجنًا مؤبدًا .

ولقد حمل كثير من رهبانهم وعلمائهم بأمر الملكة إليزابيث في المراكب ، ثم أغرقوا في البحر ، وجاء عساكرها إلى أيرالندا ليدخلوا الكاثوليك في المذهب البروتستانتي ، فأحرقوا كنائس الكاثوليك ، وقتلوا علماءهم ، وكانوا يصطادونهم كاصطياد الوحوش البرية ، وكانوا لا يؤمنون أحدًا ، وإن أمنوه قتلوه أيضًا بعد الأمان !!
وفي (حديث الأرقام والوثائق) أنه :
في إسبانيا فقط قدمت محمكة التفتيش للنار أكثر من 31 . 000 نسمة ، وحكمت على 290 . 000 بعقوبات أخرى تلي الإعدام .
وفي عام 1568 م ، أصدر (الديوان المقدس) حكمه بإدانة جميع سكان الأراضي المنخفضة . والحكم عليهم بالإعدام واستثنى من الحكم بضعة أفراد نص القرار على أسمائهم ، وبعد عشرة أيام من صدور الحكم دفع للمقصلة ملايين الرجال والنساء والأطفال .

ومن أهم المذابح التي دبرها الكاثوليك للبروتستانت مذبحة باريس في 24 أغسطس سنة 1572 م ، التي سطا فيها الكاثوليك على ضيوفهم من البروتستانت ، هؤلاء الذين دعوا لباريس لعمل تسوية تقرب بين وجهات النظر ، ثم قتلوا خيانة وهم نيام ، فلما أصبحت باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا ، وانهالت التهاني على شارل التاسع من البابا وملوك الكاثوليك وعلمائهم على هذا العمل البطولي النبيل ! ! !
وقد أسلفنا أن البروتستانت لما قويت شوكتهم مثلوا نفس الدور ، دور القسوة والاضطهاد الدنيء مع الكاثوليك ، ولم يكونوا أقل وحشية في معاملة خصومهم وأعدائهم السابقين .
وهكذا . . . هكذا دَوَّن تاريخ المسيحية أخبار بحار من الدماء ، وأكداس من جثث الضحايا البشرية التي تحولت إلى رماد محترق ، وآهات ودموع وأنين ووحشية وبربرية وأصوات استغاثة . . . !

الاضطهاد المسيحي لليهود
يقول ابن البطريق : (نقلًا عن الجواب الصحيح ، جـ3 ، ص 28) :
” وأمر الملك أن لا يسكن يهود بيت المقدس ، ولا يمر بها ، ومن لم يتنصر يقتل ، فتنصر من اليهود خلق كثير ، وظهر دين النصرانية .
فقيل لقسطنطين الملك : إن اليهود يتنصرون من فزع القتل ، وهم على دينهم .
قال الملك : كيف لنا أن نعلم ذلك منهم ؟ قال بولس البترك : إن الخنزير في التوراة حرام ، واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير ، وتطبخ لحومها ، وتطعمهم منها ، فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية .
فقال الملك : إذا كان الخنزير في التوراة حرامًا فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه الناس ؟
فقال له بولس البترك : إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة ، وجاء بناموس آخر ، وبتوراة جديدة ، وهو الإنجيل ، وفي إنجليه المقدس ، أن كل ما يدخل البطن ليس بحرام ولا بنجس وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه ” .

” فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها ، وتقطع صغارًا صغارًا ، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير ، فمن لم يأكل منه يقتل ، فقتل لأجل ذلك خلق كثير ” .
وليست هذه هي الحادثة الوحيدة التي صب فيها المسيحيون العذاب صنوفًا على رءوس اليهود . . . وإنما هناك عبر سنوات التاريخ وعصوره حوادث وحوادث . . . نختصر بعضها في هذه السطور :
كان الكاثوليك يعتقدون أن اليهود كفار ، ولهذا أجروا عليهم عدة أحكام منها : (1) من حمى يهوديًا ضد مسيحي خرج عن الملة .
(2) لا يعطى يهودي منصبًا في دولة من الدول .
(3) لو كان مسيحي عبدًا ليهودي فهو حر .
(4) لا يأكل أحد مع يهودي ، ولا يتعامل معه .
(5) أن تنزع أولادهم منهم ويلقنون العقيدة المسيحية .
– وقد أجلي اليهود من فرنسا سبع مرات .
– وعدد اليهود الذين أخرجوا من النمسا- وحدها- 71.000 أسرة!
وفي النمسا -أيضًا- قتل كثير منهم ونهبت أموالهم ، ونجا منهم القليل ، وهم الذين تنصروا . . . !
وفي النمسا -أيضا- مات كثير منهم بأن سدوا عليهم أبوابهم ثم أهلكوهم إما بالإغراق في البحر ، أو بالإحراق في النار!

وفي إنجلترا ، ذاق اليهود ألوان الذل والتشريد والطرد ، حتى إن إدوارد الأول لما ولي الملك أصدر أمره بنهب أموالهم كلها ثم أجلاهم من مملكته ، فأجلى أكثر من خمسة عشر ألف يهودي في غاية الفقر والحاجة!
وقد نقل أحد المسافرين واسمه ( سوتي ) : ” أنه كان حال البرتغاليين ، أنهم كانوا يأخذون اليهودي ، ويحرقونه بالنار ، ويجتمع رجالهم ونساؤهم يوم إِحراقه كاجتماع يوم العيد ، وكانوا يفرحون أعظم الفرح ، وكانت النساء يصحن وقت إحراقه سعادة وسرورًا ” .
ولو ضممنا إلى هذه الوثائق ، والأرقام ما فعله المسيحيون بالمسلمين ، في الحروب الصليبية ، وكذلك في إسبانيا بعد سقوط غرناطة (1) ، ثم ما فعله الاستعمار الصليبي القديم والحديث بالمنطقة الإسلامية ، لتبين لنا أن المسيحية التي يصر معتنقوها على اعتبارها (دين الرحمة والتسامح) ما هي إلا باب من أبواب العذاب والتنكيل ، وجحيم لا يطاق من التآمر والفتك ، وملحمة من ملاحم الاغتيالات والكراهية والحقد! وجرح لا يندمل في قلب البشرية وضميرها يطفح بالدم والصديد . . . !
_________
(1) قدمنا في كتابنا (دموع قديمة) نماذج مما فعلته محاكم التفتيش بالسلمين بعد سقوط غرناطة.

ومجمل القول : إن المسيحية من خلال تاريخها ، بأرقامه ووثائقه وحقائقه تعتبر مصدر قلق وآلام وشرور للإنسان ، ولتاريخ الإنسان . . . أينما كان ، وحيثما حل في أرض الله!
تلك هي النصرانية الصليبية التي يصر كهنتها أن يذروا الرماد في العيون . . فنراهم كل يوم ينشرون على الناس قائمة النحل الفاسدة التي ابتدعوها واخترعوها ليصدوا الناس عن دين الله ، وعن هداه ! !
لقد قالوا : (إن الإسلام انتشر بالسيف) . . . وظهر فيما سبق ، أن ادعائهم هذا مجرد زيف واختلاق!!
ولقد قلنا لهم -فيما مضى من حديث . . . إن المسيحية هي التي انتشرت على بحر من الدماء . . . ورفعت صليبها المقدس على هرم من جثث القتلى وأشلاء الضحايا !!
ونقول لهم : إذا كان بيتك من زجاج . . فلا ترجم الناس بالحجارة ! !

تعدد الزوجات

 

ومن الأسئلة المطروحة علي ، والموجودة الآن بين يدي ، سؤالان خاصان بتعدد الزوجات :
يتزوج المسلمون بأكثر من امرأة ، فهل هناك آية في القرآن توضح ذلك ؟
وما هي الأسباب التي جعلت النبي (صلى الله عليه وسلم) يتزوج بأكثر من أربع ؟
أما (تعدد الزوجات فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم جاء بمشروعيته -كما في الآية الثالثة من سورة النساء- قال تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (1) .
وقد جاء متصلًا بموضوع هذه الآية من السورة نفسها ، قوله : – { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (2) .
_________
(1) سورة النساء ، آية 3 .
(2) سورة النساء ، آية 129 .

وتخريج الآيتين الذي يرشد إليه سياقهما ، وسبب نزول الآية الثانية منهما ، أنه لما قيل في الآية الأولى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } فهم منه أن العدل بين الزوجات واجب ، وتبادر إلى النفوس أن العدل بإطلاقه -حتى في الميل القلبي- هو المراد من الآية ، فتحرج بذلك المؤمنين ، وحق لهم أن يتحرجوا ، لأن العدل بهذا المعنى الذي تبادر إلى أذهانهم غير مستطاع ، فجاءت الآية الثانية لترشد إلى العدل المطلوب في الآية الأولى ، ولترفع الحرج الذي تصوروه !!
فنزل قوله تعالى { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } (1) .
ومن هذا يتضح أن (تعدد الزوجات) مباح ما لم يخش المؤمن الجور في القسم بين زوجاته ، فإن خافه ، وجب عليه أن يخلص نفسه من الإثم فيقتصر على واحدة .
ويتضح -من الآيتين- أيضًا ، أن إباحة التعدد لا تتوقف على شيء من وراء العدل ، وعدم الخوف من الجور .
فلا يتوقف -مثلًا- :
على عقم المرأة ، ولا مرضها مرضًا يمنع الرجل من التحصن ، ولا على كثرة النساء كثرة يخشى منها على عفافهن ، كما في الحروب وغيرها .
_________
(1) سورة النساء ، آية 129 .

هذا ، وقد وضعت الآية الكريمة (تعدد الزوجات) في موضع الأصل للتخلص من عدم القسط في اليتامى ، ثم ذكرت الآية الاقتصار على الواحدة عند طروء الخوف من عدم العدل بين الزوجات!
فإذا كان المؤمن عادلًا في اليتيمات !
فهو أيضًا عادل بين الزوجات ! !
حكمة التعدد (1) :
التعدد أثر لعامل جنسي جُعل في طبيعة الذكر والأنثى ، ويقضي هذا العامل باستمرار قوة الرجل ، واتساع مدى استعداده للمعاشرة ، ويقضي في الوقت ذاته بطروء فترات -تنعدم فيها أو تقل- قابلية المرأة كفترات الحيض ، والحمل ، والوضع ، والنفاس .
كذلك فإن أمد الاستعداد عند المرأة ينتهي ببلوغها سن اليأس الذي يكون في أكثر الحالات عند الستين .
وبهذا ، تظل القوة الجنسية عند الرجل مهددة له في صحته أو في خلقه أو فيهما معًا .
ومن العلماء من يرى : أن التعدد أثر لسنة إلهية قضت بتفوق عدد النساء على أعداد الرجال ، وفي الوقت ذاته قضت بقلَّة الرجال فجعلت الوفيات فيهم أكثر من الوفيات في النساء .
_________
(1) أشار المؤلف هنا إلى بعض الحكمة ، ولم يُرد حصرها . (الناشر) .

وإذا لم يكن من عوامل السنة الكونية سوى تلك الحروب التي تشن على الدوام غاراتها في أرجاء العالم لكفت في الدلالة على ما أشرنا إليه ، فما بالنا إذا ضم إلى ظاهرة الحرب التي تَغتال الرجال ، وتَجعل كثرة الأمم أطفالًا ونساء ، ظاهرة التعرض لمآزق الحياة المرهقة ، وبخاصة في طبقات العمال الذين يباشرون أعمالهم بين الحديد والنار ، وفي أعماق البحار . . وفي غير ذلك من المجالات المرهقة التي لا يؤمن فيها الهلاك والموت لكان ذلك كافيًا ! !
أوروبا . . والتعدد :
لقد عرف علماء أوروبا واعترفوا بحكم التعدد ومحاسنه -ونحن نذكر شيئًا من ذلك- لا لكي يزيدنا إيمانًا ، فنحن نؤمن بكلام ربنا ، وبسنة نبينا . . .
وإنما نذكر ذلك للآخرين الذين يسرهم أن يكون الكلام والفكر غربيًّا . . . أوروبيًّا !!
لقد اكتشف مفكرو الغرب أن هناك علاقة بين منع تعدد الزوجات وارتفاع نسبة اللقطاء والموؤدين .

ففي المؤتمر الذي عقدته الحكومة الفرنسية سنة 1901 م ، للبحث عن خير الطرق لمقاومة انتشار البغاء – جاء قولهم : ” إن عدد الأولاد اللقطاء المجموعين في ملاجئ مقاطعة ” السين ” وحدها ، وجار تربيتهم فيها على نفقة المقاطعة بلغ50.000 لقيط وأن بعض القوام على هذه الملاجئ يفحشون بالبنات اللاتي تحت ولايتهم ، وأن نفس اللقطاء يفحشون بعضهم ببعض ولا زاجر يزجرهم ” .
وكتبت كاتبة إنجليزية في هذا الشأن : ” لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإنني كامرأة أنظر إلى هاتيك البنات ، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا ، وماذا يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا ” .
هذا هو الداء . . . !
عرضه الفرنسيون . . . !
وتحدثت عنه الإنجليزيات . . . !
فأين الدواء ؟

تقول الكاتبة الإنجليزية : ” ولله در العالم الفاضل ” تومس ” فإنه رأى الداء ووصف الدواء ، وهو الإباحة للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذا الأسلوب يزول البلاء ، وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بواحدة ، وهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد ، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال ، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة ، ولو كان تعدد الزوجات مباحًا لما نزل بنا هذا البلاء ” .
والذي ذكره المؤتمرون الفرنسيون ، وذكرته هذه الكاتبة الإنجليزية سبق إليه القرآن الكريم ، حينما شرع التعدد ووسع فيه .
ثم طالب الرجال بالزواج منعًا للانحراف والانحلال ، فقال تعالى : – { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } (1) .
وقال تعالى { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (2) .
_________
(1) سورة النساء ، آية 24 .
(2) سورة النساء ، آية 25 .

فالسفاح والمخادنة هما رأس الوباء والبلاء الذي حل بالأمم الغربية ، ولم تجد له علاجًا في دينها وتشريعها ، فراحت تلتمس علاجه في ديننا وتشريعنا !
في الشرق المسلم :
هذا حال الغرب شرحناه . . .
أما حال الشرق ، فهذه واحدة من دوله . . . تركيا . . . ماذا جرى لها ؟ ؟ وماذا حدث فيها ؟
لقد هجرت الإسلام هجرًا غير جميل ، وولت وجهها إلى أوروبا تلتمس منهم التشريع ، وتقتبس منهم التقدم والحضارة . . فاتخذت لنفسها قانونًا مدنيًّا يمنع تعدد الزوجات . . .
كان ذلك سنة 1926 م . . .
ثم مضت ثماني سنوات . . . وتكاثرت الولادات السرية ، والزوجات والعرفيات ، والموؤدات من الأطفال .
وانظر ما جاء في العدد 556 من مجلة آخر ساعة المصرية الصادرة في 3 من يونيو سنة 1945 م ، للكاتب المصري المعروف محمد التابعي وكان مقيمًا آن ذاك في تركيا .
إننا في حاجة إلى تعدد الزوجات . . . !
ولسنا في حاجة إلى منع التعدد ، أو مهاجمته !
لقد واجه القرآن الكريم قضية التعدد مواجهة منطقية إنسانية إصلاحية . . صريحة وواضحة !
فكيف واجهت الكنيسة القضية نفسها ؟

لقد كان التعدد مباحًا في (أوروبا المسيحية) حتى عهد شارلمان الذي كان متزوجًا بأكثر من امرأة واحدة . . ثم أشار القساوسة على المتزوجين بأكثر من واحدة أن يختاروا لهم واحدة من بينهن يطلق عليها (زوجة) ويطلق على غيرها اسم (خدينة) .
وهكذا قالت الكنيسة كلمتها . . . بطريقتها !!

تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم

يحلو لبعض الكتاب والمتحدثين الدينيين من غير المسلمين ، أن يتهموا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه كان رجلًا شهوانيًا ، بدليل أنه تزوج نحو من ثلاث عشرة زوجة ، وتوفي عن تسع !!
وهم بهذا قد أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس ، وتجنوا -عن قصد وسوء نية- على الحق والحقيقة ، والبحث العلمي المنصف!
لقد زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم – كاذب في دعواه للرسالة لأنه تزوج من نساء متعددات!
أما نحن فنؤكد ، أن من أمارات صدقه ، ودلائل نبوته زواجه صلى الله عليه وسلم من نساء متعددات! ذلك أن هؤلاء النسوة -رضي الله عنهن- روين حياته المنزلية وسيرته في بيته وبين أهله ، فإذا بها أتقى سيرة ، وأنقى سريرة!
إن هؤلاء (الضرائر) -إن صح هذا التعبير- قدمن لنا حياته الخاصة بكل وضوح ، فما وجدنا فيها شائبة ولا عائبة!
وهكذا تواطأت حياته مع أهله ، مع حياته بين الناس ، على الصدق والأمانة والرحمة والتقوى والبر والإحسان!

إن كثيرًا من الناس -إلا من رحم ربك- يتخلقون بأخلاق المنافقين ، ويتسمون بسماتهم ، فهم يتظاهرون بالصدق والإصلاح والمروءة وهم في الواقع كاذبون مفسدون سفهاء ولكن لا يشعرون ولا يعلمون!
وهؤلاء المنافقون المتظاهرون المختفون وراء الأقنعة ، لا يستطيعون أن يحتفظوا بهذا السمت المزور طويلًا . . . فتبدو ملامحهم واضحة ، وبخاصة في بيوتهم ، وبين زوجاتهم وأولادهم . ! !
فإذا كان في بيته زوجة واحدة . . لا زوجات ، فإنها سوف تخرج أخباره وأسراره ، وتشيعها بين الناس !!
وانطلاقًا من هذا المعنى ، نقول :
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في بيته زوجة واحدة . . بل كن زوجات كثيرات!!
فلو كان كاذبًا -حاشاه ، وأعاذه الله- لظهرت بادرات كذبه ، وبدرات لسانه بين هؤلاء الزوجات !
ولقامت كل واحدة منهن بإشاعة ذلك بين الجارات والقريبات . . وبين غير الجارات والقريبات !!

وبين أيدينا مصداق ذلك . . وهي حادثة ذكرها القرآن الكريم ، إذ يقول الله تعالى : – { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } (1) .
إنه سر بسيط ، أفضى به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اثنتين من أفضل نسائه ، هن ( عائشة وحفصة ) رضي الله عنهما! وأمرهما بكتمانه ، ولكن الذي حدث أن السر ذاع وشاع وانتشر ، . . وتناقلته الألسنة ، والآذان . . . وامتلأت به كتب التفسير وغيرها فيما بعد !!
إن هذا يجعلنا نقرر : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان طاهر السيرة والسريرة ، في داخل بيته وخارجه على السواء !!
ثم نقول لهؤلاء الكتاب ، ولهؤلاء المتحدثين الدينيين من غير المسلمين ، إن تعدد النبي لزوجاته لم يكن سلوكًا شهوانيًّا ، كما تتصورون ، وتصوِّرون . . . !
_________
(1) سورة التحريم ، آية 3 .

ويكفي أن تعلموا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أولى نسائه ، أمنا وأم المؤمنين ( خديجة رضي الله عنها) وهو شاب مكتمل في الخامسة والعشرين من عمره . . وكانت هي رضي الله عنها ، في الأربعين من عمرها . . ولقد عاش معها نحوًا من ست وعشرين سنة !!
أي أنها ظلت معه حتى تجاوزت السادسة والستين !!
ولم يتزوج عليها في حياتها !
وظل وفيًا لها بعد مماتها ، حتى إن عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها ، مع أنها لم تجتمع بها ، ولم ترها . . . !
ولقد تجرأت مرة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها ، فقالت له : ” وهل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها ، – تعني نفسها – ؟ ” .
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لها :
« لا والله ، ما أبدلني الله خيرًا منها ، لقد آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء » .
قالت : ” فلم أذكرها بسوء بعدها أبدًا ” .
وروى الشيخان « عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت :

” ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها قط ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة وربما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ؟ فيقول : إنها كانت ، وكانت ، وكان لي منها ولد » .
ولما توفيت خديجة رضي الله عنها ، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدد أزواجه . ولنا أن نسأل : في أي فترة من سني حياته صلى الله عليه وسلم كان ذلك التعدد ؟
وعلينا أن نجيب : إن الفترة التي عدد فيها النبي صلى الله عليه وسلم الزوجات ، هي -باعتراف الموافق والمخالف- أكثر فترات عمره صلى الله عليه وسلم ، عملًا وتضحية وجهادًا وتعليمًا وأعباء !

ثم . . أية شهوانية ، في رجل بعيد عن الدنيا وزينتها ، ويريد الله لزوجاته -أيضًا- أن يكن بعيدات عن الدنيا وزينتها ، إذ يقول الله له ، لكي يبلغهن { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } (1) .
إن الرجل الشهواني يريد لزوجته ، أو زوجاته ، أن يتزيَّن بأبدع الحلي ، وأروع الحلل !!
كذلك فإن الدارس المنصف لأسباب ذلك التعدد يجد أن له مقاصد وأهدافًا جليلة ونبيلة !!
منها : أن زوجة لبعض أصحابه الذين جاهدوا معه قد مات زوجها حال الهجرة وأن أهلها ما زالوا على الشرك ، فإما أن تعود إليهم فتتعرض للعذاب والفتنة ، وإما أن تترك بلا زوج يحميها ، ويقف إلى جانبها لمواجهة ظروف الحياة لأنها غير مرغوب فيها لسنها ، أو لقلة جمالها .
_________
(1) سورة الأحزاب ، الآيتان 28 ، 29 .

ومنها : أن يكون الهدف ربط العلاقات وتوطيدها مع من يعينه على تبليغ الدعوة . . . فيؤكد معه رباط الإيمان برباط المصاهرة . . ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحالة هو الذي يأخذ دائمًا ، فقد يعطي ، فإذا كان قد تزوج بابنتي صاحبيه أبي بكر وعمر ، فلقد زوج عثمان وعليًّا بابنتيه ( . . بل إنه زوج عثمان باثنتين هما : رقية ، وأم كلثوم ، واحدة بعد الأخرى . . فلما ماتت الثانية ، قال له : « لو كان عندنا ثالثة لزوجناك » !
– ومنها : أن يكون الهدف استنقاذها من الرق ، أو استنقاذ أهلها وذويها .
– ومنها : بيان الأحكام الشرعية ، وتطبيقها عمليًّا ، ليكون أسوة للناس في محاربة الجاهلية وعاداتها .
– ومنها : النقل عنه صلى الله عليه وسلم ، والتبليغ ، وتعليم المسلمات أمور دينهن ، وبخاصة هذه الأمور التي يستحيي النبي صلى الله عليه وسلم من تعليمها لهن . إلى غير ذلك من الأمور .

وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل ، نعرضه حينما نتعرض لبيان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين واحدة واحدة .
1- خديجة :
– أول زوجاته صلى الله عليه وسلم .
– بقي معها نحوًا من ست وعشرين سنة – كما أسلفنا- . – كان له منها أولاده الستة ، القاسم ، والطيب ، وقد ماتا قبل البعثة ، ورقية ، وأم كلثوم ، وزينب ، وفاطمة ، ومتن قبله إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر .
– ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم في حياتها غيرها -كما ذكرنا- .

2- سودة بنت زمعة : – تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة ، وقبل الهجرة .
– كانت في مثل سن خديجة ، أي في السادسة والستين من عمرها ، ولم تكن في جمال خديجة .
– وكانت قد أسلمت مع زوجها ، وهاجرا إلى الحبشة فرارًا من أذى الجاهليين من قريش ، ومات بعد أن عادا .
– وكان أهلها لا يزالون على الشرك ، فإذا عادت إليهم فتنوها في دينها ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم حماية لدينها من الفتنة .

3- عائشة بنت أبي بكر الصديق :
– كانت في نحو التاسعة من عمرها ، فما كانت تشتهى لأنها كانت ضاوية ، ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة .
فما كان زواجه منها لشهوة يبتغيها ، وإنما كان لتوثيق صحبته بالصديق رضي الله عنه!
– وكانت جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل) فيما عدا عائشة رضي الله عنها فإنها البكر الوحيدة .
– مع أنه هو القائل لجابر بن عبد الله ، حينما جاءه وعلى وجهه أثر الطيب والنعمة :
(- « هل تزوجت ؟ قال : نعم ، قال : بكرًا أم ثيبًا ؟ قال : ثيبًا ، فقال صلى الله عليه وسلم فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك ، وتضاحكها وتضاحكك » .

4- حفصة بنت عمر الفاروق : – تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ، وكانت زوجًا لخنيس بن حذاقة ، مات عنها مؤمنًا .
– وكان زواجه بها لتوثيق الصحبة بأبيها رضي الله عنه ، فقد كان له الوزير الثاني . – وما أحاط بزواجه صلى الله عليه وسلم بها ، يدل على أن مودته صلى الله عليه وسلم هي التي دفعت إلى هذا الزواج :
ذلك أن عثمان رضي الله عنه لما ماتت زوجته رقية -وغزوة بدر قائمة- رغب عمر رضي الله عنه في أن يزوجها من عثمان رضي الله عنه ، فعرض عليه ، فسكت عثمان . فشكا عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : « سيتزوجها من هو خير من عثمان ، وسيتزوج عثمان من هي خير من حفصة » .
فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم !
ومن هنا ترى : أن زواجه -صلى الله عليه وسلم- منها كان ربطًا للمودة ، وإرضاء للقلوب .

5- أم حبيبة (رملة) بنت أبي سفيان :
-تزوجها -صلى الله عليه وسلم- والحرب قائمة بينه وبين المشركين بقيادة أبيها ، أبي سفيان .
– كانت قد سافرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة ، ولكنه تنصر ، وخرج عن الإسلام ، فكانت بين أمرين ، إما أن ترجع إلى أبيها زعيم المشركين -آنئذ- فتفتن في دينها ، وإما أن تعود إلى المدينة ولا مأوى لها . فآواها النبي صلى الله عليه وسلم بزواجه منها .
– إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة فخطبها له صلى الله عليه وسلم . ودفع النجاشي صداقها ، وهو أربعمائة دينار ، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . – وبهذا الزواج أصاب النبي صلى الله عليه وسلم هدفين :
أحدهما : أنه وقاها من الشرك وأن تفتن في دينها .
الثاني : أنه أصهر إلى أبي سفيان الذي سره ذلك ، وقال : نعم الفحل لا يجدع أنفه -يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم .

6- زينب بنت خزيمة :
– كانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تعمر عنده سوى عامين .
– وكان يقال لها أم المساكين .
– قتل زوجها يوم أحد ، وكان الزواج بها إيواءًا لها ، وتشجيعًا لها على إعانة المساكين .

7- زينب بنت جحش : – وكانت زوجًا لزيد بن حارثة .
– وقد تزوجته على أنه ابن محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه وأطلق عليه ذلك الاسم .
– فلما نزل قوله تعالى { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } (1) .
_________
(1) سورة الأحزاب ، الآيتان 4 ، 5 .

« تململت ببقائها مع زيد . . وتململ هو من كبريائها ، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في طلاقها ، فقال له : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك » ، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن طلقها زيد ، ولكنه أخفى ذلك ، وخشي مقالة الناس أن يقولوا تزوج محمد زوجه ابنه!- فقال الله تعالى : – { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ } الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }{ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي

الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا }{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (1) .
فهذه الآيات تعرض أمر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها بعد أن قضى زيد منها وطرًا – وهي تدل على أمور منها :
– أن عادة الجاهلية أن الابن المتبنى يعتبر ابنًا من كل الوجوه ، فألغى الله تلك العادة ، وقال { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } .
-كذلك اقتضت حكمة الله أن يبطل هذه العادة الجاهلية التي تدخل في الأسرة من ليس منها ، فتفسد العلاقات الأسرية . وأن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدًا لهذا الإبطال إذ يتزوج زوجة دعيه بعد أن يطلقها كما قال تعالى : – { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } .
_________
(1) سورة الأحزاب ، الآيات 36-40 .

– كما دلت الآيات على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن أبًا لأحد من رجال العرب .
– كذلك فإن الزواج من زينب كان بأمر الله سبحانه وتعالى ، وليس برغبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يُؤثر عن زينب رضي الله عنها قولها : ” زوجكن آباؤكن وزوجني ربي ” .
قال تعالى { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } .

8- أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة :
– وهي مخزومية ، وقد مات عنها زوجها أبو سلمة ، وهو عبد الله بن عبد الأسد .
– وعند موت زوجها توفي عنها وهي شابة طلب إليها أن تتزوج من بعده ، ودعا لها مخلصًا أن يتزوجها من هو خير منه .
– وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنها ذات عيال ، يحتاجون إلى من يرعاهم .
– وكانت هي وزوجها مهاجرين ، فانقطعت عن ذويها .

9- جويرية بنت الحارث :
– يقول ابن هشام – في زواجها :
« لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ، ومعه جويرية بنت الحارث ، دفع بجويرية إلى رجل من الأنصار وديعة عنده ، وأمره بالاحتفاظ بها . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيبهما في شعب من العقيق ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقَال : يا محمد . أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا ، فقال الحارث : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فوالله ما أطلع على ذلك أحد ، فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان له » .
– ولقد كان الأسرى من قومها نحو مائة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من أبيها ، وكانت قد أسلمت ، أطلق كل من كان في يده أحد من الأسرى أسراه ، وقال : كيف نسترق أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعتق بزواجه صلى الله عليه وسلم منها أهل مائة من بيوت بني المصطلق .

وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في ذلك : ” ما كانت امرأة أبرك على قومها من جويرية ، لقد عتق بها مائة بيت من بيوت قومها ” .
– فما كان الزواج للشهوة ، لكن كان للحرية والعتق .

10- صفية بنت حيي بن أخطب :
« سبيت مع أختها ، وأمرهما بلال رضي الله عنه على قومهما من اليهود في خيبر ، فلام النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا ، وقال : أليس في قلبك رحمة ؟ أتمرُّ بالفتاتين على قتلى قومهما . »
– وعرض الفتاتين ليزوجهما بعض أصحابه ، فتزوجت أختها وبقيت هي فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، مواساة ، وبرًا ، ورحمة .

11- ميمونة بنت الحارث :
– وقد اختارها زوجًا له العباس بن عبد المطلب ، لتوثيق ما بينه صلى الله عليه وسلم ، وبين القبائل العربية ، وقد أصدقها العباس رضي الله عنه من ماله أربعمائة درهم .
– ويروى أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك أنها لما علمت بخطبة النبي لها ، قالت : ” البعير وما عليه لله ورسوله ” .
فنزل قول الله تعالى : – { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (1) .
هؤلاء هن زوجاته اللائي دخل بهن ، وهن اللائي يطلق عليهن (أمهات المؤمنين) حيث يقول الله تعالى { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } (2) .
وقال في منع زواجهن من بعده : – { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } (3) .
ويقول الرواة :
– إن عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة .
_________
(1) سورة الأحزاب ، آية 50 .
(2) سورة الأحزاب ، آية 6 .
(3) سورة الأحزاب ، آية 52 .

– دخل بإحدى عشرة فهن أمهات المؤمنين .
– ومات عن تسع ، إذ ماتت في حياته خديجة ، وزينب أم المساكين .
– وتزوج باثنتين لم يدخل بهما ، وهما :
أسماء بنت النعمان الكِنْدية .
أميمة بنت النعمان بن شرحبيل .
هذا هو العدد الذي أحله الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، والذي تحققت به كل المقاصد الاجتماعية والتعليمية والتشريعية التي تتعلق بالدعوة .
ولقد قال الله تعالى في ذلك : – { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } (1) .
وهذا النص يشير إلى :
– منع التعدد بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا العدد .
_________
(1) سورة الأحزاب ، الآيتان 51 ، 52 .

– وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى من يشاء منهن ويؤوي إليه من يشاء .
كذلك فإن القرآن الكريم يشير إلى أن هذا التعدد بهذا القدر خاص به صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : – { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } (1) .
لقد كانت نساء النبي أمهات المؤمنين مدارس لتعليم العلم وإشاعة الخير .
– أما قيامهن بتعليم العلم ، فلقد كان الكثيرات من النساء يستحيين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن كأحكام الحيض والنفاس والجنابة ، والأمور الزوجية ، وغيرها من الأحكام . وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تهم بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض هذه الأمور . . .
كما كان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم الحياء ، فكان كما حدثت عنه دواوين السنَّة : « أشد حياء من العذراء في خدرها » .
فما كان-صلى الله كليه وسلم- يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يعرض عليه من قبل النساء بصراحة ووضوح ، وإنما كان يكني في بعض الأحيان!
وربما لا تفهم المرأة السائلة مراده صلى الله عليه وسلم من كناياته .
_________
(1) سورة الأحزاب ، أية 50.

« تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية غسلها من الحيض ، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل ، ثم قال لها : ” خذي قرصة ممسكة- أي : قطعة من القطن بها أثر الطيب فتطهري بها ” ، قالت : كيف أتطهر بها ؟ قال : ” تطهري بها ” قالت : كيف يا رسول الله أتطهر بها ؟ قالت عائشة : فاجتذبتها من يدها ، فقلت : ضعيها في مكان كذا وكذا وتتبعي بها أثر الدم! » ولعله من فضول القول أن نقول إن كثيرًا من الأحكام الخاصة بالمرأة رويت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أنه قال :
” ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط ، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا ” .
وقال مسروق :
” رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض ” .
وقال عروة بن الزبير :
” ما رأيت امرأة أعلم بطب ولا فقه ولا شعر من عائشة ” .

ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير ، وعقلها الكبير ، فلم يرو في الصحيح عن أحد من الرجال أكثر مما روي عنها إلا ما روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .
ولعل من معاني الأمر الإلهي بألا يتزوجن من بعده صلى الله عليه وسلم { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } ليتفرغن لتعليم النساء أحكام الدين وفضائله وآدابه . . . ولنقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وبين أهله .
وأما قيامهن -رضي الله عنهن- بإشاعة الخير :
فلقد كن قدوة للنساء في العفة والطهارة والطاعة وحسن الخلق .

وإن الله سبحانه وتعالى تعهد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالإرشاد والتأديب ، لأنهن الأسوة والقدوة ، قال تعالى : – { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }{ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا }{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ

الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } (1) .
_________
(1) سورة الأحزاب ، الآيات 28-34 .

نظرات في الكتاب المقدس
وبعد هذه النظرات المدققة المحققة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وكيف ، ولماذا عدد زوجاته ؟
نعود فنقلب صفحات الكتاب (المقدس !!) لنرى ما جاء فيه عن الأنبياء ، وزوجات الأنبياء . . .
ونكتفي بأن نتعرض للأنبياء الثلاثة :
أ- جدعون .
ب- داود .
جـ- سليمان .
جدعون :
وجدعون بن يوآش الأبيعزري ، أحد الأنبياء الرسل في العهد القديم يدل على نبوته ورسالته ، ما جاء في (الإصحاح السادس من سفر القضاة ، العدد 7 ، وما بعده) :
” وكان لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بسبب المديانيين ، أن الرب أرسل رجلًا نبيًّا إلى بني إسرائيل ، فقال لهم . هكذا قال الرب إله إسرائيل : إني قد أصعدتكم من مصر وأخرجتكم من بيت العبودية ، وأنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مضايقيكم وطردتهم من أمامكم وأعطيتكم أرضهم ، وقلت لهم . أنا الرب إلهكم ، لا تخافوا آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون أرضهم ، ولم تسمعوا لصوتي .

وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفرة التي ليوآش الأبيعزري وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين ، فظهر له ملاك الرب ، وقال له الرب معك يا جبار البأس فقال له جدعون : أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه ، وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين . ألم يصعدنا الرب من مصر ، والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان ، فالتفت إليه الرب ، وقال . اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان ، أما أرسلتك ؟ ” .
وكذلك يدل على نبوته ما جاء في (الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين ، العدد 32 ، 33) :
” وماذا أقول أيضًا لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون وبفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك صنعوا برًّا ، نالوا مواعيد ، سدوا أفواه أسود ” .
والسؤال هو : كم تزوج جدعون هذا ؟
والجواب- كما في أسفار العهد القديم :
” كان لجدعون سبعون ولدًا خارجون من صلبه ؛ لأنه كانت له نساء كثيرات ، وسريته التي في شكيم ولدت له هي أيضًا ابنًا فسماه أبيمالك ” (سفر القضاة : 8 ، 30 ، 31) .
داود :

وداود عليه السلام ، وبرأه الله مما يفترون عليه ، تقول عنه الأسفار ، إنه تزوج نساء كثيرات .
تزوج -أولا- ميكال بنت شاول ، مقابل مهر لم تسمع الدنيا بمثله . . . وهو مائة غلفة من غلف الفلسطينيين !!!
ولست أدري ما الذي يريده شاول من هذا الغلف !! ؟
وماذا يريد أن يصنع به ، أو يصنع هذه لابنته !! ؟
ما علينا . . .
فقد تطول الأسئلة ، ولا مجيب !
المهم . . . إن داود الكتاب المقدس (!) كان أكرم من شاول .
فقدم مهرًا مائتي غلفة ، لا مائة واحدة!!
جاء في (الإصحاح الثامن عشر من سفر صموئيل الأول ، العدد 26 ، 27) :
” ولم تكمل الأيام حتى قام داود وذهب هو ورجاله وقتل من الفلسطينيين مئتي رجل وأتى داود بغلفهم فأكملوها للملك لمصاهرة الملك ، فأعطاه شاول ميكال ابنته امرأة ” .
وتزوج داود بست نساء أخريات- هن :
1- أخينوعم اليزرعيلية .
2- أبيجايل .
3- معكة بنت تلماي ملك جشور .
4- حجبث .
5- أبيطال .
6- عجلة .
جاء ذلك في (الإصحاح الثالث من سفر صموئيل الثاني (العدد 2 وما بعده) .
” وولد لداود بنون في حبرون . وكان بكره أمنون من أخينوعم اليزرعيلية .

وثانيه كيلاب من أبيجايل امرأة نابال الكرملي . والثالث أبشلوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور . والرابع أدونيا ابن حجبث . والخامس شفطيا ابن أبيطال . والسادس يثرعام من عجلة امرأة داود ” .
ثم تزوج داود بنساء أخر ، وسراري لم يصرح (الكتاب المقدس) بعددهن .
” وأخذ داود أيضًا سراري ونساء من أورشليم بعد مجيئه من حبرون فولد أيضًا لداود بنون وبنات ” (سفر صموئيل الثاني 5-13) .
بل إن (الكتاب المقدس) يحدثنا عن (تصريح مفتوح) لداود أن يتزوج بمن يشاء ، وقتما يشاء ، حسبما يشاء .
” هكذا قال الرب إله إسرائيل ، أنا مسحتك ملكًا على إسرائيل وأنقذتك من يد شاول ، وأعطيتك بيت سيدك ، ونساء سيدك في حضنك ، وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا ، وإن كان ذلك قليلًا كنت أزيد لك كذا وكذا) (سفر صموئيل الثاني 12 : 7-8) .
وزواج داود من امرأة أوريا الحثي . . من القضايا التي تحيطها علامات الاستفهام من كل اتجاه . . .
وإننا لننقل الحادثة بطولها . . . ونضعها أمام عقول الكتابيين ونضع معها سؤالا . . . سؤالا واحدًا وموجزًا . . .
أين هذا من محمد ؟
والقصة ، يرويها الكتاب المقدس ، هكذا :

” وكان عند تمام السنة في وقت خروج الملوك أن داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل فأخربوا بني عمون وحاصروا ربة ، وأما داود فأقام في أورشليم ، وكان في وقت المساء أن داود قام من سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا ، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد أليست هذه بتشبع بنت اليعام امرأة أوريا الحثي ؟ فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود . قالت إني حبلى . فأرسل داود إلى يوآب يقول أرسل إلي أوريا الحثي ، فأرسل يوآب أوريا إلى داود . فأتى أوريا إليه فسأله داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب ، وقال داود لأوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك ، فخرج أوريا من بيت الملك ، وخرجت وراءه حصة من عند الملك ، ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته ، فأخبروا داود قائلين لم ينزل أوريا إلى بيته . فقال داود لأوريا أما جئت من السفر . فلماذا لم تنزل إلى بيتك ؟ فقال أوريا لداود : إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي

نازلون على وجه الصحراء ، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي . وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر . فقال داود لأوريا أقم هذا اليوم أيضًا وغدًا أطلقك . فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده ، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره . وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل .
وفي الصباح كتب داود مكتوبًا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا . وكتب في المكتوب يقول اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت . وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه . فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب فسقط بعض الشعب من عبيد داود ومات أوريا الحثي أيضا ، فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب . وأوصى الرسول قائلًا . عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع أمرر الحرب ، فإن اشتعل غضب الملك وقال لك لماذا دنوتم من المدينة للقتال . أما علمتم أنهم يرمون من على السور من قتل أبيمالك بن يربوشت ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص . لماذا دنوتم من السور ؟ فقل قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا .

فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب . وقال الرسول لداود قد تجبر علينا القوم وخرجوا إلينا إلى الحقل فكنا عليهم إلى مدخل الباب فرمى الرماة عبيدك من على السور فمات البعض من عبيد الملك ومات عبدك أوريا الحثي أيضا . فقال داود للرسول . هكذا تقول ليوآب لا يسوء في عينيك هذا الأمر لأن السيف يأكل هذا وذاك . شدد قتالك على المدينة واخربها ، وشدده .
فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها ندبت بعلها ، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنًا . وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب ” (سفر صموئيل الثاني- الإصحاح الحادي عشر بتمامه) .
وهذه القصة الطويلة -كليل الشتاء- تزعم :
– أن داود رأى امرأة أوريا الحثي -أحد جنوده المحاربين- تستحم عارية فوق السطح وأنها أعجبته . . . فأخذها . . . وزنى بها . . . فحملت منه سفاحًا . . . فأراد أن يتخلص من هذا العار فأرسل يستدعي زوجها من الحرب . . . ليبيت مع امرأته . . . حتى يمكن اعتبار هذا الحمل منه . . .
– ولكن ذلك الجندي الباسل ، أبى أن يبيت مع زوجته ، ورفاقه من الجنود يحاربون في الصحراء . . .

فما كان من داود إلا أن كتب كتابًا إلى قائد الجيش . . . وأرسله مع أوريا المسكين . . . يطلب في الخطاب من قائد الجيش أن يجعل أوريا في موقع خطر من مواقع المواجهة مع العدو . . . حتى يقتل . . .
– وقد كان ذلك . . . فقتل أوريا . . . حسب المؤامرة التي رسمها داود . . .
– وبعد مقتل أوريا أرسل داود إلى زوجة أوريا ؟ . . وضمها إلى نسائه . . !
أقرأتم . . . . . أرأيتم ؟
هكذا تتكلم أسفار العهد القديم عن أنبياء الله ورسله . . . برأهم الله مما يقوله الظالمون المفترون !
نسيت أن أذكر لكم . . . بقية الأسطورة الكتابية . . .
فالأسطورة تذكر أن بتشبع هذه . . . هي أم سليمان الحكيم . . . (راجع الإصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني ، العدد 24) .
كذلك تزوج داود في آخر عمره بفتاة عذراء اسمها ( أبيشج الشونمية ) كما جاء في (الإصحاح الأول من سفر الملوك الأول ، العدد 1 وما بعده) .

” وشاخ الملك داود . وتقدم في الأيام ، وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ ، فقال له عبيده : ليفتشوا لسيدنا الملك عن فتاة عذراء فلتقف أمام الملك ولتكن له حاضنة ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك . ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل فوجدوا أبيشج الشونمية فجاءوا بها إلى الملك ، وكانت الفتاة جميلة جدًّا فكانت حاضنة الملك وكانت تخدمه ولكن الملك لم يعرفها ” .
سليمان :
يكفي أن نذكر عن سليمان ما جاء في (الكتاب المقدس) بالحرف الواحد ، فلقد جاء فيه :
” وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل : لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري فأمالت نساؤه قلبه . وكان في زمان شيخوخة سليمان إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه ” (سفر الملوك الأول 11 ، 1- 4) .

و . . . هكذا يتحدثون عن سليمان . . . الذي أسرف في التزوج من الوثنيات . . . حتى إنه تزوج بألف امرأة . . . وضل في آخر حياته . . . وكفر ، واتخذ له آلهة أخرى . . بإغواء هؤلاء الوثنيات الجميلات .
هكذا تتحدث أسفار القوم عن سليمان !
أما القرآن الكريم ، فإنه يقول :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } . سورة البقرة، آية 102.
والشياطين ، هم هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ومن على شاكلتهم ، ممن يسيئون إلى رسل الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . . . !
وخلاصة القول . إنه ليس في موضع واحد من أسفار العهد القديم حرمة التزوج بأكثر من واحدة . . .
ولو كان التزوج بأكثر من واحدة حرامًا أو مذمومًا لنبه إلى ذلك موسى عليه السلام . . بل إنَّ هناك نصوصًا تشير إلى جوازه ، أكتفي منها بذلك النص :

” إذا خرجت إلى محاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيًا ، ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة ، فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم أظافرها ، وتنزع ثياب سبيها عنها ، وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان ، ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوج بها فتكون لك زوجة وإن لم تسر بها فأطلقها لنفسها . لا تبعها بيعًا بفضة ولا تسترقها من أجل أنك قد أذللتها .
وإذا كان لرجل امرأتان . إحداهما . محبوبة ، والأخرى مكروهة فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة ، فإن كان الابن البكر للمكروهة ، فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكرًا على ابن المكروهة البكر ، بل يعرف ابن المكروهة بكرًا ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده ؛ لأنه هو أول قدرته له حق البكورية ” (سفر التثنية 21 ، 10-17) .
و . . . بعد هذا الاستعراض لا أملك إلا أن أتمثل بقول الشاعر :

إذا محاسني اللاتي عرفت بها … كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر ؟

 

مقالات أخرى للكاتب

مشاركة

فيسبوك
تويتر
واتس
تيليجرام
Pinterest
Print

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *